أقلام حرة

يوميات أستاذ من درجة ضابط

isjc

السفير 24 | بقلم : ذ. عزيز لعـويـســي

وقفــة مـع المفتــش عـزيـــــــم

كان الأستاذ “سليم” طيلة فترة التكوين وعند نهاية كل أسبــوع ، يتقاسم تجربته الجديدة مع صديقه المفتش السابق ” عزيم ” ويشاركه في حيثيات التكوين بمركز مازاغان بكل جزئياته وتفاصيله المملة أحيانا ، بل ويشاركه أيضا حتى في مناقشة الجانب الخفي من هذه الوضعية الجديدة والذي لم يكن ســوى الجانب المادي الذي أضحى يطارد “سليم” كما يطارد العاشق الولهان عشقا يبدو أقرب إلى المحــال ، وكيفية تدبيــر المراحل اللاحقة في ظل الإستقالة وإيقاف راتبه الشهـري ، سواء في مرحلة التكوين أو بعد التخرج ، كانا يلتقيان عادة في إحدى المقاهي الراقدة بشارع الرياض بمدينة الزهور كما يلتقي الشيخ بمريديه ، يتبادلان الحديث في كل شئ لسويعات عابرة عبور السحاب ، وهما يحتسيان فنجان قهوتهما المفضلة نوع “موس بلونش” ، ينتقلان من موضوع إلى آخـر كما يتنقل النسيم العليل بين المروج والبراري العطشـى ..

كانا يبدوان كفارسين مغوارين قادمين لتوهما من نصر كاسح ما بعده نصر ، تمـردا في غفلة من الجميــع على طوق الأرقام السليبة وأغلال الآهات التي لاتنتهي ، بطريقــة عصية على الفهم والإدراك ..

كان “سليم”و”عزمي” وفي سياق أحاديثهمـا الجارفة ، يركبان على صهوة الماضي ويرحلان إلى دهاليز الذكرى الراحلة ، بكل ما تركته في نفسيهمــا من آثــار كانت تصل أحيانا حد الألم والتمرد الصامت والبكاء على مصير أرضيته حبلى بالأشواك وقشور المــوز ..

جمعتهما الشرطة لسنوات عجـاف ، وكان اللقاء الأول قبل ما يزيد عن الست سنوات عن طريق الضابط “حمــدان” بإحدى مقاهي المحمدية ، وقد كان ذاك اللقــاء العابر مقدمة لعلاقة ناضجة ومسؤولة ما فتئت تزداد متانة وصلابة يوما بعـــد يوم ، كان “عزيم ” يشتغل وقتهــا بصفوف الهيئة الحضرية بالدارالبيضاء بعد أن قضى سنواته الأولى بإحدى الثكنات بالجنوب ، أما “سليم” فقد كان يشتغل في الشرطة القضائية بنفس المدينة في مصلحة لم يبارحها منذ تخرجه وتعيينـه ، ورغـم ذاك الاختلاف المصلحــي ، فقد لامس “سليم” بحكم خبرته وبعد نظــره أن “عزيــــم” لا صلة له لا بالعقلية ولا بالصورة النمطية التي عادة ما تلازم المنتسبيـن الى شرطة الزي الرسمي ، وأن “الكسوة ” و”الزرواطة” و”المينوط” البارز و”الكابوس” البادي للعيان و”الدوبلاجات”وليالي العمل الطوال ، لم تنل شيئا من شخصيته ، ولم تسرق بعض وريقات زهرة أحلامه الراقدة على مطرح الصمت ..

بل أكثر من ذلك تبيـن أنه يحمل نفس “الهم” ونفس “الرغبة الجامحة” في التغيير نحو وظيفة أخــرى ، وهو نفس “الهم” وذات “الرغبة” التي أضحت تتشكل في عوالم “سليم” في صمت، تغديها أحاسيس مسترسلة من القلق والإحباط وخيبات الأمـل ..

كل واحد منهما قــــدم إلى سلك الشرطة من باب الصدفة ، وربما كان ذلك هروبـــا من كابوس مخيف اسمه “البطالة ” ، كلاهما لم يقو على الاندماج مع المهنة الجديدة ، ربما بحكم الشخصية التي لا تقبل بالرضوخ أو الإنصيـاع لأي كان ، أو المبادئ ، أو الأحلام الكاسحة التي كانت أكبـر من أن تلهث لسنوات وراء “رتبـــة” لن تحمل سوى المزيد من الآهات والأتعاب المملة ، وربما أن كل هذه اعتبارات تقاطعت لتؤجج في عوالمها رغبـــــة مشتعلـة في التحرر والانعتــاق من الأصفــاد والانخراط في وظيفة أخــرى بإمكانها أن تستوعب أحلامهما الكاسحــة ..

ولج “عزيم “إلى سلك الشرطة بعد أن قضى سنة أولى في الجامعة تخصص تاريخ وجغرافيــا ، وإشتغل بعد التخرج بثكنة بإحدى مدن الجنوب ، قبل أن يبتسم له الحظ في الإنتقال إلى الدارالبيضاء ، أما “سليم” فقد ولج إلى السلك وبحوزته إجازة في التاريخ ، وعين في الدارالبيضاء بمصلحة لم يبارحها إلى أن دقت ساعة الرحيل ..

إذن ، فقد كان التخصص (التاريخ والجغرافية) أول نقطة تقاطع بين الشرطيين ، أما التقاطــع الثاني ، فقد تحقق بعدما نجح كل واحد منهما في إمتحان مهني ، “عزيم” إنتقل من رتبة “حارس أمن” إلى رتبة “مفتش شرطة” مما جعله يتخلص بدون رجعة من الزي الرسمي والزرواطة والكابوس البارز الذي كان يزيده عذابا في عذاب ..

أما “سليم” فقد نجــح بدوره في إمتحان مهني جعله يرتقي من رتبة “مفتش ممتاز” إلى رتبة “ضابط شرطة ” ، لكن ذاك النجــاح لم يغير من واقع الحال شيئا ، وظلا مصرين على عــدم إعلان الهدنة مع مهنة المتاعب والآهــات .. كانت لهما إمكانيات كبيرة في النجاح في إمتحانات مهنية أخـرى والإرتقاء الى رتب أكبــر ، لكن رغبتهما القوية في التغيير كانت أقــــــــوى ..

نقطة الإلتقاء الثالثة ، كانت هي شعبة القانون الخاص بكلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية بالمحمدية ، كان المفتش” عزيم ” سباقا إلى الحصول على اجازة في القانون الخاص ، أدرك كما أدرك الضابط “سليم” ، أن وضع الأيادي على الخــدود والبكاء والآهات ..

أمور لن تجدي في شئ ، لذلك راهنا على الدراسة كوسيلة وحيــدة يمكن أن تفضي إلى الإنعتاق بنسب مائوية كبيــرة ، الرغبة في إيجاد الحل الناجع ، هي التي دفعت الضابط “سليم” إلى التسجيل في كلية الحقوق بعدما ضيع إمكانية الحصول على “ماستر” في التاريخ غضون سنة2007 بسبب ضغوطات الشغل ، كان يرغب في الحصول على إجازة ثانية تعطيه فرصة ثانية للتسجيل في الماستر إلى جانب الفرصة التي تمنحها له إجازة التاريـــخ ، في الوقــت الذي قاد فيه الطموح الجارف المفتش “عزيم ” إلى الحصول على ماستر في قانون الأعمال من كلية الحقوق بالرباط بميزة “حسن” مع إعطائه توصية بنشر البحث، وهذا الإنجاز الكبير لم يأت بمحض الصدفة ، بل فرض عليه أن يتوقف على التوالي لمدة سنتين عن العمل بدون أجر حتى يتفرغ للماستر ، في وقت كان فيه “سليم” بصدد الخطوات الأولى في كلية المحمدية وفي جعبته هدف متوسط المدى هو الحصول على إجازة ثانية في الحقــــــوق ، ولأن المجهودات لا تذهب سدى ، فقد تحقق “حلم” المفتش”عزيم” في التغيير المنشــود بعدما نجح في امتحــان المتصرفين بوزارة المالية، ليطلق الأصفــاد طلاقا لا رجعة فيـه غضون شهر دجنبر من سنة 2012 ، وقد عــاش الضابط “سليم” فرحة التغيير مع المفتش “عزيم ” وشاركه في كل ما أعقبها من آهات تقديم طلب الاستقالة وكذا الحصول على الشهادة الادارية وقرار الاستقالة ، في تلك الأثنــــاء وموازاة مع المسار الجامعي ، كان “سليم” يترقب خوض غمـار إجراء مباراة الولوج إلى المراكز الجهوية لمهن التربية والتكويــن ، بعــد أن حصل – استعدادا.

لهذه المباراة- على دبلوم خاص في البيداغوجيا من أحد المعاهد الخاصة بالدارالبيضاء ، ومن غريب الصدف أن المفتش “عزيم ” حصل قبله على دبلوم مماثل ، تقدم “سليم” إلى المباراة بصفة “المرشح الحر” وليس بصفة “الموظف” ، وقد نهج هذا المسلك الذي سبقه إليه المفتش “عزيم ” لصعوبة الحصول على “ترخيص” في الموضوع من المديرية العامة ، وكمــا أن الحظ إبتسم للمفتش “عزيم” إبتسم نفس الحظ للضابط “سليم” بعد أن وفق في المباراة كأستاذ للثانوي التأهيلي تخصص تاريخ وجغرافيا ، ليطلق بدوره الكابوس المرعب والأصفاد بعد أن توصل بقرار اللإستقالة غضون شهر دجنبر من سنة 2013 ، أي بعد مضي سنة كاملة من مغادرة المفتش “عزيم ” بل أكثر من ذلك فقد غادرا معا الصفوف نفــس الشهــر ، وبما أن “عزيم ” كـان أول المغادرين ، فقد قــدم كل المعلومات الممكنة لسليم ، سواء فيما يتعلق بموعد الحصول على الشهادة الإدارية الخاصة بالإستقالة وقرار الإستقالة وقرارات التوظيف والتعيين وكذا كيفية استرداد مبلغ التأمين الخاص بنهاية الخدمـة ، بما في ذلك إجراءات التشطيب من تعاضدية الأمن والتسجيل بتعاضدية رجال التعليم …

حكاية “عزيم”و”سليم” قد يطويها النسيان يوما ، لكن ومهما إمتدت اليها أيادي النسيــان ، ستبقى حاضرة كالشعلة التي تنير مساريهما الجديدين ، لما تحمله من دروس وعبـر تتقاطع عناوينها في مدارة تنمية الذات وتطوير القدرات والتخطيط وغيرها ، حيث تتناسل مجموعة من الأسئلــة الكبرى من قبيل : كيف يمكن تحويل السلبي إلى ايجابي ؟ كيف يمكن تحدي مطبات الألم والآهات والضجـر ؟ كيف يمكن فك الأغــلال ؟ كيف يمكن التشبث بآخر حبال الأمل في ظل سلطة الإحباط والهزيمة وإنسداد الأفق ؟ كيف يمكن الصبر والتحمل وإختزال المعاناة وتحويلها إلى طاقة ايجابيـة مشحونة بشحنات التحفيـــز والرغبة الجامحـة في تخطي الصعاب وتجاوز المطبــات ؟

ما حققه المفتش” عزيم “والضابط “سليم” ربما يتــوق إليه الكثير من زملاء الأمس ، لكن يكتفون بالبكاء والنواح والإحتجاج الصامت والآهات المسترسلــة ، دون أن يحولوا تفكيرهم السلبي إلى تفكير إيجابـي من شأنه أن يولد لديهــم طاقة هائلــــة لها من القــوة ما يجعلها مؤمنة كل الإيمان بالتغير وبإمكانية التغييـــر ، ما تبقى لهم من أحـــلام لايتجاوز الحلم أو الأمل في الإرتقــــاء إلى رتبـــة أعلى بعد سنـــوات عجــــاف .. وهي نفس أحلام وآمال كل المنتسبيــن إلى مهنة المتاعب والمخاطر..

تلك التجربة ، أبانت بما لا يدع مجـــالا للشك أن “التغيير” ممكن ، ليس في الوظيفة فحسب ،ولكن في كل شعاب الحياة، وطالما آمـن الإنسان بالتغييـــر وراهن عليـــه ورسم الأهداف بكل دقة ، وكد وجد وكافح ، سيصل لا محالة الى معانقة حلمه وتحقيق آماله العريضــة .. التجربة أبانت أيضـا أن الحيـــاة ضيقة جدا لولا فسحة الأمل ، وهــذا الأمل هو الذي يعطــي للإنسان الجرعات الضروريــة من أجل مواجهة كل فيروسات الرتابة والروتين القاتـل ..

الآن وبعــد أن تخلصا من عبء الأصفاد والكابوس المرعب والأوامر المقلقة .. يخطو كل واحد منهما في مساره الجديد بطموحات وأهداف جديدة .. بعيدا كل البعــد عن سنوات الأرقام الأسيرة .. في وقت لا يزال الضابط “حمدان” لايبارح مكانه .. ويبدو أنه انصاع الى الأمر الواقع .. لم تتشكل في ذاته بعد تلك الطاقة المشتعلة التي أخرجت “عزيم “و”سليم” عنــوة من المستنقع الراكد ..

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى