في الواجهةكتاب السفير

سلطـة الأمطــار..

isjc

– بقلم : عزيز لعويسي

لما تتقلص مساحات الرقابة، وتتعطل آليات ربط المسؤولية بالمحاسبة، تحضر “كوفيدات” العبث والتهور والأنانية المفرطة، وترفع شعارات “قولو العام زين” وتتسع رقعة سياسة المساحيق والأرقام المزيفة التي يتم الترافع بها لإخفـاء الحقيقة المرة التي تدركها العين في الشوارع والطرقات والمرافق والخدمات والإدارة والتعليم والقضاء والإعلام والتربية والسياسة والتدبير المحلي، وفي المدن التي باتت فضاءات فاقدة للجاذبية والإشعاع، مكرسة للبؤس والهشاشة والانحراف، وفي ممارساتنا اليومية التي لايعلو فيها صوت على صوت التهور وانعدام المسؤولية والخلاف والعناد والمصلحة والأنانية، وهي مشاهد من ضمن أخرى، تعمق جراح الوطن وتحرمه من فرص النهوض والارتقـاء في مدارج التنمية.

لما تتراجع سلطة الرقابة أو تغيب، تنوب عنها “سلطة الأمطار” في القيام بمهام الفضح والكشف عنوة عن سوءة الواقع المسكوت عنه، وهذا ما حدث مع أمطار الخير التي عرت عن حقيقة ما تشهده العديد من المدن إن لم نقل كلها، من مظاهر الأزمة والبؤس والاختلال على مستوى التدبير المحلي، فإذا كانت مدينة من حجم الدارالبيضاء بحجمها وقامتها، قد غرقت شوارعها وتنفست بعض أحيائها تحت الماء، فيمكن أن نتخيل واقـع الكثير من المجالات الحضرية والريفية عبر التراب الوطني، حيث لا يعلو صوت على صوت البؤس والرتابة والتواضع والإهمال.

ما صنعته الأمطار في مدينتي الدارالبيضاء والمحمدية ومدن أخرى من مشاهد الغرق والارتباك والقلق، يضعنا أمام خيارين اثنين لاثالث لهما: إما الانحناء أمام العاصفة حتى تعود حليمة إلى عادتها القديمة حاملة شعار “قولو العام زين” في انتظار أمطار رعدية جديدة وغرق جديد وبكاء جديد، أو استثمار ما حدث، لمساءلة واقـع الممارسة التدبيرية في الكثير من المجالات الترابية في ظل ما تتخبط فيه المدن والأرياف من أزمات مرتبطة بالصحة والتعليم والأمن والمرافق العمومية والبنيات التحتية والفضاءات الخضراء ودور الشباب والرياضة والسكن والمواصلات وغيرها، ونرى أنه لابديل لنا اليوم، سوى سلك الخيار الثاني، لأن ما حدث، يقوي الاحسـاس بانعدام الثقة في صناع القرار الترابي، ويعمق بؤرة الهروب من السياسة ومن العزوف الانتخابي، ويؤسس لمفهوم للممارسة الحزبية والسياسية، مقرون بالعبث والمصلحة والأنانية والانتهازية وتسلق الدرجات.

إذا كنا نترقب التقرير النهائي لعمل “اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي” والذي يعول عليه لبلورة “نموذج تنموي جديد” تتحقق معه أهداف التنمية ومقاصد النهوض والارتقــاء، فلايمكن أن يحقق هذا النموذج التنموي الأهداف المرجوة، ما لم يتم وضع عمل الجماعات الترابية “تحت المجهر”، والرهان على تحريك آليات الرقابة والحكامة حرصا على المال العام من أن تطالعه أيــادي العابثين والوصوليين الذين حولوا الكثير من المدن إلى “مدن بدون حياة” فاقدة لأدنى شروط الجاذبية والإشعــاع …

“سلطة الأمطار” فوق الجميــع، لاتعرف المحاباة ولا المجاملات ولا غض الطرف ولا مساحيق التجميل ولا لغة الخشب ولا الأرقام الخادعة، لا تنصت إلا لصوت الحقيقة والعدالة، من حسناتها وفضائلها، أنها تعري سوءة العبث والغش والفساد، و لا تجد حرجا في ذلك، وتنشر غسيل السياسات التنموية الفاشلة أمام الملأ بجــرأة، ومن المخجل ألا نسمع الصوت وألا نتبين الحقيقة المرة التي تعيش بين ظهرانينا، ومن المخجل جدا، ألا تتــحرك عجلات المساءلة والمحاسبة والعقاب، حفاظا على المال العام ودفاعا عن أحقية المواطنين دافعي الضرائب في إدراك التنمية والتمتع بخيراتها.

ما حدث في الدارالبيضاء والمحمدية، ما هو إلا مرآة عاكسة لما يعتري واقع الممارسة الترابية من مشاهد الارتجال واللخبطة، مما يحول دون كسب رهانات التنمية الجهوية والمحلية، ويحد من مفعول ما تعرفه الدولة من أوراش تنمويـــة كبرى، وإذا كانت الوصفة السحرية تكمن في الجانب الرقابي وتفعيل مبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة” وتكريس مبدأ “عدم الإفلات من العقاب”، فلابد أن يكون ذلك مقرونا بارتفاع في جرعات المواطنة التي تقتضي مسؤولين متملكين لقيم المسؤولية والنزاهة والاستقامة والاتزان والتضحية والتبصر واستحضار الصالح العام، ومواطنين حقيقيين، يتحملون مسؤولياتهم الكاملة ليس فقط في اختيار من يدافع عن حقوقهم ومتطلباتهم ســواء في البرلمان أو على مستوى تدبير الشأن المحلي، بل وفي المراقبة والتتبــع أيضا، ونختم بالقول أن مشكلاتنا ليست مع جائحة “كورونا” التي سترحل عاجلا أم آجلا، بل في جائحة انعدام المسؤولية وغياب الضمير المهني والعبث والغش والتهور والريع والمحسوبية والزبونية والمصلحة والأنانية …

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى