في الواجهةكتاب السفير

عذرا أيها العميد المحترم، لكن هناك نصّ القانون وهناك روح القانون وفلسفته أيضاً… رسالة مفتوحة إلى من يهمّهم أمر البحث العلمي والباحثين الشباب

isjc

* بقلم: يسين العمري – باحث مغربي

توطئة لا بدّ منها:

جميعنا يعرف، وطبعاً كاتب المقال بالذات باعتباره رجل قانون في المقام الأول تكويناً وممارسة، أنّ المطبّق عادةً هو القانون، أو نصوص القانون، أو إن شئنا فلنقل القانون بالحرف أو طبق النصّ، وجميعنا يعرف كذلك القاعدة القائلة لا اجتهاد مع وجود النّص، وهي بالمناسبة قاعدة فاشلة تغلق باب الاجتهاد وتسبب في شلل العقول.  لكن هل هذا التشدّد أحياناً إلى حدّ التطرّف في التشبّث بحرفية النصوص يحقّق العدالة المنشودة من قبل كلّ التشريعات السماوية والأرضية؟

الجواب مباشرة ومن دون مقدّمات هو كلّا، حيث من المفترض الأخذ في عين الاعتبار بروح القانون. فالقانون بالمناسبة لوحده لا يكفي كنصوص جامدة أن يحقق العدالة المنشودة، ولكن لكل حالة ظرفها. وهنا فمن المفروض أن ينظَر الى العوامل المحيطة بالحالة للتأكد من أننا فعلا نطبق القوانين بعدالة، فالقانون لوحده هو مثل الآلة الصماء الخالية من الروح، بل أكثر من ذلك، إنّ روح القانون هي التي تعطي القوانين الحياة .

شيء جميل أن يطبّق السيد عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بعين الشق القانون، وكذلك السادة الأفاضل بوحدة الدكتوراه في الأدب الشعبي بذات الكلية، وقبلهم السيدة رئيسة جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وهذا شيء يُحمد لهم، ويبعث على الافتخار نظراً لحرصهم على احترام تكافؤ الفرص، حسب فهمهم للنصوص المؤطّرة للدكتوراه بحرفيتها، وهذا شيء أشهد لهم به قبل غيري، وما رأيت غيره لأشهد به. ولكن وما أدراك ما ولكن، عندما تفتح الوحدة المذكورة والتي وللأمانة تمّ الإعلان عنها في موقع رئاسة الجامعة، وعلى حدّ علمي -إن لم أكن مخطئاً- لم يتمّ نشر نفس الإعلان في موقع كلية عين الشق، لكن ومع الأسف فإن العديد من الطلبة الباحثين المهتمّين، بل من الأساتذة أنفسهم لم يعلموا بالأمر، وتواصلت مع العديد منهم، فأكّدوا لي الأمر، إلى أن فوجئ العديد من الباحثين خصوصاً، ذات ليلة بإعلان في موقع كلية عين الشق، ينصّ على استدعاء ثمانية وعشرين طالبا لاجتياز مباراة الانتقاء بوحدة الأدب الشعبي (التابع لشعبة اللغة العربية وآدابها)، وفي الأخير حضر من بين كلّ الطلبة الذين تمّ استدعاءهم فقط، تسعة وهو عديد قريب من عدد الأساتذة الأفاضل والأستاذات الفُضلَيَات، الذين كانوا أعضاء اللجنة العلمية للانتقاء، وعددهم ستّة.

المهمّ، كغيري من الباحثين أولاً، والمهتمين بالمجال ثانياً، فوجئت بالخبر، بل أعترف أنه نزل علي كقطعة ثلج باردة في ليلة أشدّ برداً، بتّ ليلتي تلك في حيص-بيص (كما يُقال)، وطرحت على نفسي عشرات الأسئلة، ما وقع قد وقع، وربّما كان هذا آخر عام تفتح فيه هذه الدكتوراه، واسمي ليس بين من تمّ استدعائهم لاجتياز المباراة الشفوية لانتقاء المقبولين، ومع ذلك قلت لنفسي اختر الخيار الأكثر طوباوية، فربّما لو حملت مشروعي وحاولت إقناع أعضاء اللجنة العلمية، لربّما وجدوا لي حلّاً قانونياً، وفعلا نفّذت مخطّطي وجمعت ملفّاً متكاملاً فيه ورقة بحثية تشمل أفكاراً عامّة عن الموضوع، علماً أنني أفعل كلّ هذا لرغبتي الجامعة في العلم والتحصيل لا لشيء آخر، فعندي دبلومات وشواهد عديدة منها الدكتوراه، التي سوف أناقشها في غضون أيام معدودات، في كلية أخرى، ولله الحمد والمنّة، كما أنني أشتغل في وظيفة محترمة براتب معقول، يجعلني لا أتنافس كثيراً على مغانم الدنيا، ولا أجعل من هذه الأخيرة منتهى طموحي، بمعنى آخر لا أحتاج للدكتوراه للتوظيف أو الترقية الإدارية أو غيرها من الدوافع، بل أرغب في نيل الدكتوراه للعلم وللعلم فقط، لأنّ مخططي المستقبلي هو الانخراط في تأليف ونشر الكتب، والدّفاع عن قضية المغرب الأولى، وهي الصحراء المغربية، وتلك أمور تحتاج زاداً معرفيا يضاف إلى سيرتي العلمية.

المهمّ حملت ملفي ومشروعي البحثي، وتوجّهت إلى المقابلة، وطرحت على السادة أعضاء اللجنة العلمية المشرفين على الانتقاء الإشكالية، فأخبروني أنّ الحلّ بيد السيد العميد، وجازاهم الله خيراً، تعاملوا معي بمنتهى الأدب والتفهّم، وأجريت المقابلة في موعدها المحدّد مع الطلبة التسعة الآخرين، وأجبت عن تساؤلات الأساتذة بخصوص مشروع البحث، وتمّت الأمور على ما يرام، لكن تحت تحفّظ قبول السيد العميد لطلبي، وكنت أظنّه للأسف سيقدّر الأمر ويتفهّم، لكن ظنّي خاب، وتحقّقت في حالتي مقولة إنّ بعض الظّنّ إثم.

تمّ طرح الإشكال على السيد العميد، الذي رفض طلبي، وأنا أتفهّم تماماً وأقدّر رفضه، فاسمي لم يكن ضمن اللائحة الأولية التي نشرت في موقع رئاسة الجامعة، وتمّ ربط الاتّصال برئاسة الجامعة حيث أخبروني، بما أنني اجتزت المقابلة، وفي حالة وجود مؤطّر يقبل بحثي، ووجود محضر موقّع من لجنة الانتقاء، فيه اسمي كأحد الاختيارات التي يمكن قبولها ضمن لائحة محلية تخصّ كلية عين الشق، مستقلّة عن تلك التي تمّ نشرها في موقع رئاسة الجامعة، عموما دخل طلبي في متاهة النصوص وحرفية النصوص، والحلول الممكنة والأخرى غير الممكنة، فسقطت في سلسلة لا متناهية ودوّامة من التفاعلات، مع ذلك تشبّثت بالخيط الرفيع من الأمل، وطرقت كلّ الأبواب المشروعة والقانونية الممكنة،حاولت بكلّ عزم وقوّة ممكنين، لكن كما يقال في المثل الشعبي الدّارج: “الله غالب يا الطالب”.

 ما أنا متأكّد منه تماماً هو وجود مؤطّر موافق على الإشراف على مشروع بحثي، ومتأكّد تماماً من أنّ بحثي نال إعجاب ورضا اللجنة “ربّما بالإجماع”، بل ونال الباحث أيضاً احترام أعضائها ورئيسها، لكن هل تمّ تدوين كلّ ذلك في المحضر أو لا؟ العلم عند خالق الكون، ربّما نعم وربّما لا، وفي النهاية تبقى الوثائق هي الأهمّ وليست المشاعر…. المهمّ عاد الأمر من جديد إلى حلقة مفرغة أفقدتني الأمل والرغبة معاً فبتّ زاهداً في الأمر، وما أريده الآن هو أن يتمّ تفعيل روح القانون مستقبلاً في حالات أخرى غير حالتي، فأنا أعلن ها هنا سحب طلبي بشرف وعنفوان الفرسان، وإباء الباحثين عزيزي النفس، فعلا تمّ اغتيال رغبتي وطموحي بفعل فاعل، لكن لله الأمر من قبل ومن بعد. 

ما ذنب باحثين لم يعلموا بوجود مباراة الدكتوراه إلا قبل مقابلة الانتقاء بقليل؟ ما ذنب باحثين لهم طموح وشغف بالعلم ولهم حرص على البحث والمعرفة بنهم وشراهة من أجل بلدهم وأبناء وطنهم؟ ما ذنب باحثين أنّ بعض المسؤولين سامحهم الله يصمّون آذانهم حتى عن السماع لدفوعاتهم؟ وهل هذا كفيل بالقول بوجود نوع من التطبيق الأعمى والأصمّ للقانون؟ ما ذنب باحثين إن كان الحرص في وطننا من طرف المسؤولين على قطاع البحث العلمي يتشبّثون بحرفية النصوص لا روحها وفلسفتها؟ 

نعم تكافؤ الفرص أمر جميل وفيه تحقيق للشفافية والعدالة، وأنا قبل غيري لا أرضى على نفسي أن آخذ مكان غيري، ولا أن يأخذ غيري مكاني، لكن في هذه النازلة أتساءل من أعماقي: هل تحقّق العدل؟ هل هذه هي العدالة حقّاً وصدقاً؟ هل إضافة باحث آخر إلى جانب الطلبة التسعة سيقتل العدل؟ هل سيشكّل الأمر فعلا انتهاكاً صارخاً لتكافؤ الفرص؟ علماً أنّ التسعة الذين اجتازوا المباراة كلّهم قبلوا؟ وعلما أنّ باقي من وردت أسمائهم في اللائحة التي يتمّ إشهارها في وجهنا كلّما حاولنا طرق أي باب، تغيّب تسعة عشر شخصاً عن المقابلة؟ ماذا عن الذين تسجّلوا وتغيّبوا ألو يجحفوا في حقّ أنفسهم وغيرهم؟.

شخصيا أحسست بغبن كبير، وأحسست بأنني أنا من لم يُعامل بمنطق تكافؤ الفرص ولا حرص على العدالة، أطالع تقريباً بشكل شبه يومي موقع كلية عين الشق، فأنا أستاذ إضافي متطوّع (Vacataire) بذات الكلية، وربّما كوني كذلك ضرّني أكثر ممّا نفعني، فهي فرصة لإظهار أنّ القانون يُطبّق بحزم، وهذا أمر أقدّره وأحترمه، بل وأحبّه، لكني لم أشاهد أبداً وجود مباراة في موقع كلية عين الشق، ويوم علمت للأسف، كان الوقت قد فات، وحّدد موعد اللجنة العلمية الانتقائية، وكنت على الأقلّ أودّ لو تمّ التعامل مع حالتي وحالة باحثة ومهندسة معمارية مقيمة بفرنسا، وحالة باحث آخر مقيم بفرنسا ومهتمّ بالأدب الشعبي المغربي، بنوع من الرأفة والتعاطف، فثلاثتنا حرّكتنا الرغبة العلمية في البحث من أجل البحث ذاته، لا من أجل التوظيف ولا الترقية ولا غيرها من الاعتبارات.

عموماً أنا من أبناء كلية عين الشق وطلبتها، فإن رُفض طلبي اليوم للتسجيل في إحدى وحدات الدكتوراه بها، بسبب الإصرار على تطبيق حرفية النصوص، وإغفال روح القانون، فأنا لا أتأسّف إلا على شيء واحد، وهو أنّ حرصي على العلم والتعلّم فيما يبدو لم يكن مقنعا بما فيه الكفاية لمن بيده الأمر، الذي رفض حتى إجابتي، وهنا فقط أحسست بنوع من الغبن وعدم العرفان، وأين؟ في مكان أعتبره بيتي الثاني، ضحّيت فيه ولا أزال بوقتي ومجهودي، وهذا شيء أفتخر به ولا أمنّ به إطلاقاً. وعليه، فلربما قرّرت مستقبلاً أن ألجم طموحاتي، وأكتفي بما عندي من تكوينات وشواهد وخبرة معرفية متواضعة ولا أزيد، فبلدنا مع الأسف لا يشجّع على العلم والتحصيل، وكفاني ما أحسست به من إحباط وألم نفسي خلال الأيام الثلاثة السابقة، ويشهد الله كم حاولت وناضلت، ورغم وجود حلّ قانوني، ينهي المسألة،  وهو الحلّ المقترح على مستوى رئاسة الجامعة، باعتباري ضمن اللائحة المحلية لطلبة عين الشق، والإشارة في محضر الانتقاء إلى أنني اجتزت المقابلة، وتمّ قبولي. 

لكن بمجرّد العلم بتحرّكاتي، تحرّك “أحدهم” أو “بعضهم” بسرعة البرق، وتمّ نشر لائحة المقبولين بعد ساعتين تقريباً من تواصلي مع رئاسة الجامعة، ليوجّه رسالة –ليس بالضرورة لي شخصيا- مفادها “اذهب أينما شئت، فلن تعدو قدرك”، وهذا حال مسؤولين كثر في مجالات متعددة مع كامل الأسف. إنها السلطة وما أدراك ما السلطة. وهكذا تمّ إجهاض آمالي ومجهوداتي تبخّرت، والحمد لله على كلّ حال، فهو الذي لا يُحمَدُ على مكروه سواه، أمام إصرار غريب على التقيّد بحرفية النصوص دون روحها، نفس المعاناة خلال محاولة نشر الأبحاث في المجلات المحكمة، تنشر لنا كباحثين مغاربة مجلات جزائرية وتونسية وعراقية وليبية وخليجية… الخ، في حين تتجاهلنا أغلبية المجلات المحكّمة المغربية، وكلّنا يعلم كيف تتمّ الأمور في تلك المجلات، وهذا أمر آخر لا يقلّ فداحة بالنسبة للباحثين المغاربة من طلبة وأساتذة، ليس هنا مجال طرحه.

السادة المسؤولين الكرام عن البحث العلمي في المغرب، أرجوكم وأتوسّل إليكم، تعاطفوا قليلا مع القلّة القليلة المتبقية التي ترغب في العلم لأجل العلم، والبحث من أجل البحث، لا من أجل التوظيف والترقية (رغم أن ذلك أمر عادل وطموح مشروع لأهله لا شكّ)، ولكن لا تقتلوا طموح الباحثين المخلصين بتمسّككم الراديكالي والعنيف بحرفية النصوص، التي ليست بحال من الأحوال نصوصاً مقدّسة، إنّما هي اجتهاد بشر، قد يخطئ المرء منهم وقد يصيب، لا تتجاهلوا روح القانون وفلسفته يرحمكم الله. 

وها أنذا باحث يطلب صرخة ألم وتألّم، فيها كلّ معاني الاحتجاج والاستنكار والغضب ضدّ ملابسات الإشكال الذي تعرضت له، لا ضدّ شخص أو أشخاص، مع إبداء كلّ التفهّم لأصحاب مدرسة التشبّث بحرفية النصّ، لكن أرى أنّ القانون الحَرفي لوحده وتجريده من روحه، أمر لا يكفي ولا يحقّق عدلا. وبكلّ جرأة أطرح طرحي هذا، وأتحمّل مسؤولية كلّ كلمة وردت فيه، ولا أخاف في الله لومة لائم، هذا مبدئي الذي ربّاني عليه والداي وأساتذتي الكرام.

فكّرت في لحظة طيش أن أطرق باب الوزارة الوصية أو القضاء، وأملك في ذلك كلّ الجرأة اللازمة، لكن أدركت في لحظة تعقّل ورزانة أنها معركة خاسرة، لن يربح فيها الباحث إلا العداوات والمطبّات والمؤامرات فيما بعد، في بلد لا زال فيه من يجلس على كرسي ما يعتقد أنّه يملك الأرض ومن عليها، ففوّضت الأمر برمّته إلى الله عزّ وجلّ، ولدى الله تجتمع الخصوم، وفق الله إخواني الطلبة التسعة المقبولين، والأساتذة المشرفين عليهم. أقول لهم من قلبي وفقكم الله، ذنبي الوحيد أنني لم أعلم بوجود مباراة، هذا هو الجرم الذي اقترفته وآسف على هذا الجرم العظيم الذي لا يغتفر، الشكر موصول كذلك للسيد العميد الذي طبّق القانون بمنتهى الحرفية، والذي رفض مجرّد الإجابة على رسائلي ومكالماتي، وهذا في حدّ ذاته أشدّ وطأة من رفض طلبي، شكراً سيدي، لك مني كلّ الاحترام، كنتم دوماً نعم الأب والمربي، وكلامي من باب عتاب المحبّ، لا أقلّ ولا أكثر، ولن يفسد للودّ قضية، على الأقل من طرفي.

وأختم بقولي أنّ القانون لوحده هو مثل الآلة الصماء الخالية من الروح، بل أكثر من ذلك، إنّ روح القانون هي التي تعطي القوانين الحياة. وفي حالتي وحالة أمثالي، للأسف القوانين لم تحقّق أيّة عدالة، بل على النقيض تماماً، القانون هنا ساقنا إلى مذبح الحرمان من الانخراط في بحوث علمية ذات مواضيع مفيدة، وأفكار رصينة ومنهجية سليمة، ووالله وتالله وبالله ما نحن من خسر، بل البحث العلمي في بلدنا من يخسر جنداً مخلصين كثر، لست سوى أدناهم، وسيخسرهم مستقبلا، إذا ما تمّ الإصرار على هذا عدم إيقاف هذا النزيف، من خلال التمسّك بتطبيق حرفية النصوص وتجاهل روحها، ظنّاً أننا نحقّق بذلك عدالة “شكلية” “نصوصية”.

والسلام على من اتّبع الهدى وأمر بالتقوى.

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى