في الواجهةكتاب السفير

نافذة على فاجعة البوغاز

isjc

* بقلم : عزيز لعويسي

لم تكد تخمد نيران مجزرة حي الرحمة بسلا التي أودت بحياة عائلة بطريقة غاية في التوحش والبشاعة، حتى استيقظ الرأي العام الوطني قبل أيام، على فاجعة طنجة التي شهدت هلاك ما مجموعه 28 عاملة وعاملا قضوا غرقا بورشة للنسيج بمرآب تحت أرضي بفيلا سكنية بحي الإناس بمنطقة المرس بطنجة، وهم في رحلة كفاح شاق بحثا عن لقمة عيـش تقي حر الفقر والبؤس والهشاشة، انتهت آخر أشواطها على إيقاعات التراجيديا، وهي فاجعة مؤلمة تذكرنا بمأساة “روزامور” لصناعة الأفرشة بالدار البيضاء قبل سنوات، والتي أودت بحياة أزيد من 50 عاملا عبر الحرق البشع.

ما حدث في “روزامور” بالدار البيضاء قبل سنوات، سيعاد إنتاجه وبدون شك، في مدينة البوغاز بنفس الحسرة والمآسي وبذات الإدانة والاحتجاج، مع اختلاف في الأمكنة والأزمنة والضحايا والفاعلين والمتدخلين، وبنفس السيناريو الذي يمر عادة عبر “الإدانة” و”فتح التحقيق” و”الاعتقال” الذي غالبا ما يطال من يدخل في خانة “الحيط القصير” للخروج من عنق زجاجة المأساة، وعقبها تنتهي الحكاية وتعود حليمة إلى عادتها القديمة وترفع من جديد يافطة “قولو العام زين” في انتظار فاجعة جديدة نعيد من خلالها إنتاج  ما يسيطر علينا من أفكار وردات أفعال “منتهية الصلاحية”.

فاجعة البوغاز على غرار مأساة “روزامور”، تضعنا أمام أسئلة محرقة ومؤلمة في ذات الآن بشأن العديد من الورشات والوحدات الإنتاجية التي تمارس في إطار “القطاع غير المهيكل” بعيدا عن سلطة القانون وبمعزل عن ضوابط الأمن والصحة والسلامة، وفي حالات كثيرة أمام مرأى ومسمع السلطات المختصة، وبشأن ما باتت تعيشه الكثير من المجالات الحضرية من مشاهد الفوضى العمرانية، وإذا كانت جريمة شهداء لقمة العيـش واضحة المعالم ومكتملة العناصر ولا تحتاج إلى تفسير أو تأويل أو حتى تبرير، يبقى السؤال الجوهري : من هو الفاعل أو المجرم الحقيقي ؟ 

في هذا الصدد، فإذا كانت بعض الأصوات  لن تتردد في توجيه صكوك الإدانة والاتهام إلى “المشغل” وتحميله وزر ما وقع من مأساة لايمكن قطعا إيقافها أو التصدي لها، في ظل تواضع البنيات التحتية ومحدودية الخدمات العمومية، فنرى أن المجرم الحقيقي هو أبعد وأعمق من “مشغل” كان يشكل مصدر رزق بالنسبة للكثير من الأشخاص والأسر بغض النظر عن “سرية” أو “قانونية” الوحدة الصناعية التي يسيرها ..  المجرم الحقيقي هو “الصمت” و”التواطؤ” و”انعدام المسؤولية” و”العبث” و”الفساد” بكل تعبيراته، و”غياب الضمير المهني” و”التقاعس عن أداء الواجب” و”الجشع” و”الطمع” و”الفوضوية” و”انتهاك القوانين والضوابط “… 

بصورة أوضح فالمجرم الحقيقي هو كل من يرعى الفوضى ويتواطأ مع الفساد ويطبـع مع كل الممارسات الخارجة عن سلطة القانون، ويتقاعــس في أداء الواجب المهني، هو كل من تسيطر عليه الأنانية المفرطة ويلهث جريا وراء المصالح الضيقة، هو كل السياسات “غير المسؤولة” المكرسة للفوارق الاجتماعية والتباينات المجالية والمعمقة لبــؤر الإقصاء الاجتماعي، والتي تفرض على الكثير من الغلابى والبسطاء الاشتغال في ظروف مهنية جسيمة في سبيل  انتزاع لقمة عيـش في واقع سوسيو- اقتصادي لايرحم أبدا، هو كل السياسات المرتبطة بالمدينة التي حولت المدن إلى مجالات بئيسة بدون حياة ولا جاذبيـة، في ظل حضور ممارسات الجشع والعبث من جانب “لوبيات العقار”، هو كل من يضع “العصا فالرويضة” أمام الوطن ويمنعه من كل فرص النهوض والارتقاء التنموي … 

فاجعة البوغاز ما كان لها أن تحدث لولا سلطة الأمطار، التي باتت تنوب عنا في الكشف العمدي عما بات يتخلل الممارسات السياسية والتدبيرية الجهوية والمحلية من مظاهر الارتباك والارتجال والأنانية والاستخفاف بالمسؤوليات، بعيدا عن آليات الحكامة وما يرتبط بها من شفافية ونزاهة ومسؤولية ورقابة ومحاسبة، وعليه، واستحضارا لحجم وعمق المأساة وآثارها النفسية والاجتماعية على أسر الضحايا، بات من الضروري ” فتح نقاشات مسؤولة” بخصوص التوجهات العامة التي تؤطر سياسة إعداد التراب الوطني وبرامج التهيئة الحضرية والريفية، في ظل الأزمات المتعددة المستويات التي تتخبط فيها الكثير من المدن والأريــاف على مستوى البنيات التحتية والمرافق والتجهيزات العمومية، والحرص على إيجاد حلول وبدائل حقيقية من شأنها الدفـع في اتجاه إدماج “القطاع غير المشكل” في النسيج الاقتصادي الوطني وليس شن الحرب عليه، والرهان على تنزيل “ميثاق اجتماعي جديد” يتأسس على مبادئ وقيم المساواة والكرامة والعدالة الاجتماعية والمواطنة الحقة واحترام روح القوانين و”ربط المسؤولية بالمحاسبة” وتفعيل آليات “عدم الإفلات من العقاب”…

فاجعة البوغاز كشفت في شموليتها عن المستور وفضحت المفضوح، في واقع سياسي وحزبي باتت كل أطواره ومشاهده تختزل في الانتخابات والحملات الانتخابية المسعورة والركض وراء المصالح الضيقة واللغط والجدال والعناد، و التهافت وراء المناصب والكراسي وما تجود به السياسة من “ريــع”، والمحصلة ما نعيشه اليوم من نكسات اجتماعية وتنموية، فرضت المضي قدما في اتجاه “نموذج تنموي جديد” يصحح مسارات التنمية الشاملة ويدخل البلد إلى مرحلة “المسؤولية” و”الإقلاع الشامل”، ومن المؤسف جدا أن تطال حبال المآسي أعناق البسطاء والضعفاء والغلابى الذين لا حول لهم ولا قوة، وهذا ما يجعل المغرب يتربع في مؤخرة عدد من المؤشرات الدولية وفي طليعتها “مؤشر التنمية البشرية” الذي يتأسس على ثالوث “الصحة” و”التعليم” و”الدخل الفردي”…

مأساوية الفاجعة، تفرض استعجال الانتباه إلى أبناء وأسر ضحايا لقمة العيــش، ليس فقط من باب الدعم النفسي والاجتماعي، ولكن أيضا من باب تعويضهم المادي جراء ما حدث بعيدا عن التعقيدات القضائية والإدارية، مع توجيه البوصلة بالأساس إلى الأبناء/ التلاميذ الذين باتوا في دائرة الأيتام بعدما فقدوا في لمحة بصر الآباء أو الأمهات أو ربما هما معا، في انتظار التحرك الحقيقي والمسؤول الذي من شأنه القطع مستقبلا مع فواجع مماثلة، وليس أمامنا اليوم، إلا أن نترحـم على أرواح الضحايا سائلين الله عز وجل أن يشملهم بواســع الرحمة والمغفرة، وأن يلهم ذويهم الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعــون … على أمل أن نستوعب الدرس مرة أخــرى، فكفانا مضيعة للوقت .. كفانا هدرا لزمن الإصلاح .. كفانا أنانية .. كفانا جشعا .. كفانا “حلبا” للوطن .. كفانا استخفافا بحياة البسطاء والغلابى والمقهورين … فما أحقر السياسة إذا كانت مكرسة للبؤس والإقصاء الاجتماعي .. وما جدوى الفاعل السياسي إذا لم يجد الحلول ويتخذ القرارات ويقترح البدائل التي من شأنها تجويد سبل الحياة وزرع الأمل وتحقيق النهوض والارتقاء التنموي … بل ما قيمة “المسؤولية” ما لم تربط بالمحاسبة والعقاب وترتقي بالإنسان …

ونختم المقال بالقول: لا نوزع صكوك الاتهام عبر هذا المقال، ولا نترافع دفاعا عن طرف دون آخر، تاركين ذلك لأهل الاختصاص، وليس في جعبتنا إلا “قلم” يمنحنا جرعات من القوة والشجاعة، للترافع دفاعا عن الوطن، متحررين من أية مؤثرات سياسية أو حزبية أو جمعوية أو إعلامية أو حتى نقابيــة، تتحكم في الأفكار وتوجه الرؤى والتصورات والقناعات، لذلك، فنحن لانتردد في التألم متى تألم الوطن ولانتقاعس في رفع يافطة الإدانة والاحتجاج، متى علا صوت العبث والأنانية والمفرطة والمصلحة والارتجال في المدن كما في الأرياف، في واقع سياسي واجتماعي لم يعد يسر النا ظرين، ومن أجل الوطن كتبنا ومن أجل الوطن سنكتب ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، على أمل أن نكون جميعا خداما أوفياء للوطن في أفق “نموذج تنموي جديد”، لايمكن قطعا كسب رهاناته الآنية والمستقبلية، إلا إذا حضرت شروط الوطنية الحقة وما يرتبط بها من انضباط والتزام وتضحية ووفاء وتضامن واستحضار للصالح العام وعدالة اجتماعية ومسؤولية ومحاسبة، وشن حرب حقيقية ضد دعاة العبث وصناع الفساد وأخواتــه …

[email protected]

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى