كتاب السفير

بدايــــة أستـــــــاذ متدرب ..

isjc

عزيز لعويسي

بإنتهـاء حكاية “إمتحان التخرج” في شقه “النظري ” والذي لم يحمل من صفة “الوطني” سوى”الإسم”.. إنتهت حكاية موسم تكويني استثنائي بكل المقاييس، ولم يكن كابوس التعييــن المزعج وما تخلله من هواجس وأعقبه من آهــات، ســـوى سحابة صيف عابرة ما إن رحلــت، حتى لاحت في الأفق القريب معالم موسم دراسي جديد بالنسبة لكل مكونات هيـئة التدريس ، لكن بالنسبة للأستاذ “سليم” وغيره من المتخرجين الجدد من دفعة 2013/2014 لم يكن موسما جديدا فحسب، بل كان يعنــي الخطوة الأولى في مسار مهني جديد والانخراط الرسمي في مهنة حبلى بالأعباء والانشغالات، وتحمل مسؤوليــة القسم بكل ثقلها وجسامتهــا..في تلك الظروف المزعجة، وفي عز حرارة شهر أغسطس ، لم يجد “سليم” بدا من الانصياع إلى الواقع المر وعقد العزم على مواجهة مطبة التعييـــن بكل ما ستحمل إليه من إكراهات مستقبلية واضحة تارة ومستترة تارة أخـرى.. ركب على صهوة الرحيل في إتجاه بــلاد “احمر” وتحديدا مدينة “الشماعية” التي لم تطأها قدماه من قبـل، حيث كانت تنتظره حياة جديدة في ظل واقع صعب، بعيدا كل البعــد عن مدينة الزهــور بكل نسائمها العليلــة المنبعثة كل صباح ومساء بانسياب من شواطئ المركز ومانيسمان ومونيكا والصابليط.. بعيدا عن الأسرة الصغيرة والجامعة والأصدقاء والأحبـة ..

بعد أن أفلح “سليم” في كراء منزل على مقربة من المحطة الطرقية التي طالتها ألسنـة البؤس والرتابة والإهمال كما طالت المدينة نفسهـا، قصد ذات زوال (2 شتنبر 2014) ثانوية التعييــن التي تتربــع كالقلعة المنيعة في الهوامش الخلفية للمدينة القرية، بعيدة كل البعد عن “الأمن” الذي يغيب عن المدينة برمتها بشكل عصي على الفهم، وبعد أن وقع على محضر الدخول، سيتبين لـه لاحقـا (صباح يوم 21 من نفس الشهر) أنه في وضعية “فائض” شأنه في ذلك شــأن زميله في القاعة الزرقاء الأستاذ “فضل الله” المنحدر من المنطقة، حينها عاد “سليم”عنوة إلى كابوس التعيين ، وتساءل بكل حسرة ومرارة كيف تم إبعاده عن المدينة التي يستقر بها وتم تعيينــه في ثانوية بها فائــض، لم يكن وقتها الانفعال يجدي ولا حتى الحســـرة، تسلم قرار التكليف، وقصد مؤسسة التكليف المعنية، حيث وقع على محضر الالتحاق وتسلم إستعمال الزمن الخــاص بـه.. أدرك حينها “سليم” أن الحظ إبتسم لـه وهو في عز القلق وخيبـات الأمل لسببيـن إثنين، أولهما أنه سيعيـن في ملحقة تابعة للإعدادية التي تئن من ويلات الإكتضاض، والسبب الثاني أنه ســوف يدرس فقط ستـة أقسام من نفس المستوى (الأولى ثانوي إعدادي) بمعــدل (18) ساعة أسبوعيــــة تنتهي يوم الجمعة زوالا، ممـا كان سيسمح له بالانتقال إلى مدينة الزهور كل نهاية أسبـوع من أجل تفقد الأسرة وتغيير الأجــواء هروبا من مدينــة رتيبة تبـدو كقرية كبيــرة بلباس مدينــة.. بالمقابل فقد كلف الأستاذ “فضل الله ” في ثانوية إعدادية أخرى وأسندت له سبعة أقسام (أولات وثانيات ) ..

بعد التوقيــع على محضر الإلتحاق بمؤسسة التكليف، غادر “سليم” إلى حال سبيله في إنتظـار أن يباشر عمله الفعلي بالملحقة صباح اليوم الموالي على الساعة الثامنة صباحـا .. في تلك الأثنـاء كان الشغل الشاغل لسليم ،كيف سيدبـر تلك الحصص الأولى خلال الأسبوع الأول المخصص عادة للاستقبال والتعارف والتقويم والتعاقد ؟ وهذا السؤال العريــض كانت تتناسل وراءه جملـة من التساؤلات من قبيــل: كيف سيدبر أول حصة ؟ كيف سيقدم نفسه للتلاميذ ؟ كيف سيقدم التلاميذ أنفسهــم ؟ هل سيطلب منهم تعبئة بطاقة المعلومات ؟ كيف سيتعاقد معهم حول ميثاق الفصل ؟ هل سيكون التعاقد مكتوبا أم سيكتفي بتقديم خطوطه العريضة شفهيــا ؟ ماهي قواعد هذا التعاقد ؟ كيف سيدبر موضوع التقويم التشخيصـي ؟ أية أدوات سيطلب منهـم ؟ كيــف سيستقبلهـم ؟ هل بجدية الضابط التي تصل إلى حد الصرامة ؟ هل يبتسم ؟ هل يخفي إبتسامتـه العريضــة ؟ أم يجمع بين التقاسيم الصارمـة والإبتسامة العريضـــــــة؟ أسئلة عريضة وأخــرى، أبت إلا أن تطارد “سليم” في تلك اللحظات الاستثنائية في مسار كل أستاذ متخرج .. أعد ما سيسهل عليه تدبير تلك الحصص الأولى من ميثاق للفصل وبطاقات معلومات ونماذج من الأسئلة التي سيسخرها في التقويم التشخيصي، بما في ذلك استحضاره لكيفية تدبيــر طريقة التعارف بينه وبين المتعلمين، لكــن مع ذلك فقد كــان يدرك كل الإدراك أن “القسم” هو الذي يعلم، مهما كانت جودة الدروس النظرية التي تلقـــاها المتدرب، وتجربة “الممارسة الفصلية” هي التي تطور الأداء وترتقـي بــه، لذلك فقد كان على أهبـــة واستعداد من أجل الارتماء في “مسبح “القســم، متسلحا بما يدخره من إمكانيات معرفية وتواصلية وخبرة مهنية ..

في تمام الساعة الثامنة من صباح اليوم الموالي (22/09/2014) كان سليم في القسم وجها لوجه مع تلاميذ صغار يخطون خطواتهم الأولى في التعليم الثانوي الإعدادي، نظراتهم البريئة وتقاسيم وجوههم ونوعية هندامهم، توحي منذ الوهلة الأولى أنهم ينحدرون من أوساط فقيرة ومعوزة مع بعض الاستثناءات القليلة، بعد التحية والترحاب، بادر إلى تقديم نفسه باقتضاب، وأطلعهم على القواعد العامة التي سيتعين عليهم الالتزام بها ضمانا لمرور الموسم في ظروف ملائمة، في مقدمتها إحضار الكتاب المدرسي وعدم التأخر وإنجاز الواجبات المنزلية والمشاركة في الحصص الدراسية، وعدم الولوج إلى القسم إلا بعد أخد الإشارة من الأستاذ وكذا الوقوف عند دخول الأستاذ أو أي زائر آخر للقسم من باب الاحترام والترحاب … كانت لمسة الضابط حاضرة في هذه القواعد العامة الصارمة، كان مقتنعا تمام الإقتناع أن شخصية الأستاذ تتأسس منذ الحصص الأولى، ومقتنعا بالمثل الشعبي القائل “نهار الأول تايموت المش”.. لذلك كان حريصا على التحلي بالصرامة والجدية ، محترزا من أية “حرية” ممنوحة قد تفضي إلى الإنزلاق .. عقبها وزع عليهم بطاقات معلومات وطلب منهم تعبئتها، كان الهدف من هذه العملية، أولا خلق نوع من الثقة بين الأستاذ والمتعلمين، ثم ثانيا تمكين الأستاذ من قاعدة معطيات تمكنه من التعرف بدقة على الوضعية الاجتماعية لكل تلميذ، في أفق حسن إستثمارها في العملية التعليمية التعلمية اللاحقة، عقب ذلك اتخد الأستاذ “سليم” مكانا في إحدى المقاعد الخلفية، وطلب من المتعلمين القيام إلى السبورة وتقديم أنفسهم، وقد كان الهدف، يتمثل بالخصوص في أن يكسر المتعلمون حاجز الخوف والخجل ومنحهم مزيدا من الثقة بالنفس، ثم رصد مدى قدرتهم على تركيب جمل مفيدة …

فــي تلك الأثناء وبينما هو يصغي إلى المعنيين بالأمر بدقة وتمعن، راودته جملة من التأملات التي أبت إلا أن تعاكس تفكيره في تلك اللحظات الخالدة، وتخرجه عنوة إلى إستحضار الماضي الراحل ليس من باب الحنين ولا من باب “النوستالجيا” ، ولكن من باب مقارنة ما كان” وما هو”كائن”، ما “مضى” وماهو”آت “.. بين الماضي الراحل والحاضر تغيرت الصفة والأمكنة والنفسية والعقلية والأشخاص والإهتمامات وحتى الأمنيات .. بين الماضي والحاضر تحول الضابط إلى أستاذ، وهذا التحول المفاجئ تحولت معه أشياء كثيرة .. تم الإنتقال من الدارالبيضاء بكل عنفوانها وكبريائها إلى الشماعية بكل رتابتها وروتينها القاتل، تحولت “الكوميسارية” إلى “قسم” و”تلاميذ” و”سبورة” و”مكتب”، تحول الضابط الغارق في الأبحاث والتحريات والأوامر التي لا تنتهي إلى أستاذ “سيد قسمه” لايقبل بأمر ولا بتعليمات داخل مملكته الصغيرة .. رحلت المحاضر والتقارير والأصفاد والسلاح الوظيفي والبطاقة المهنية، وحضرت الجذاذات ودفتر النصوص والكتاب المدرسي، غاب الجمود والرتابة وحضر التكوين والبحث والإعداد…

انتهت حكاية الضابط الذي يبحث مع الأضناء ليل نهار وابتدأت حكاية الأستاذ الذي لا يعرف ضنينا ولا بحثا جنائيا، توقفت ناعورة الديمومة والعمل الليلي والعمل النظامي والمهمات الخاصة وتعليمات الرؤساء وأوامر النيابة العامة، مقابل توقيت محدد ومضبوط جدا يسمح بإقامة مواعيد وإعطاء وقت للأسرة ورسم أهـداف ومتابعة الدراسة، إختفى الرقم المهني ورحل السلاح الوظيفي والبطاقة المهنية والأصفــاد، وحلت المحفظة السوداء والطباشير والأقلام والمذكرة ..تراجع الإهتمام بقضايا الشرطة والإجرام وأخد يبرز اهتمام جديد خاص بقضايا التربية والتكوين .. في المجال الأول، لم يكن “الزمن” حاضرا بقوة، بحيث يمكن التأخر عن العمل (ماعدا مواعيد الديمومة ) ويمكن المغادرة من أجل تناول وجبة غداء أو شرب فنجان قهــوة، لكن في المجال الثاني فالزمن له أهمية قصــوى ،ولا يمكن للأستاذ أن يتأخر عن حصته إلا إذا كان غيابه مبــررا، غابت الإجازات السنويــة التي يتم الحصول عليها بصعوبة أحيانا خاصة في فصل الصيف والتي لا تتجاوز العشرين يوما أو أقل بدعوى قلة الحصيص وغاب الإشتغال أيام الأعياد الوطنية والدينية  وحضرت العطل البينية والعطل الصيفية وعطل الأعياد والمناسبات وحتى عطل نهاية الأسبــوع، في الوضعية الأولى، يتم زجر المجرمين الخارجين عن القانون وتقديمهم إلى المحاكم المختصة والقيام بالحملات التطهيرية الروتينية، وفي الوضعية الثانية، يتم الإسهام في صناعة الإنســــان وغرس قيم التربية والمواطنة .. في الصورة الأولى كانت تحضر الآهات والصرامة والإنضباط والجدية، وفي الصورة الثانية، تختفي الصرامة الزائدة على اللزوم أو على الأقل تتراجع مستوياتها.. في القطاع الأول كثيرا ما تتأجج مشاعر القلق والتوثر وعدم الرضا وعدم الإستقرار بسبب ضغط العمل وإكراهاته، وفي القطاع الثاني تكاد تختفي المشاعر المذكورة من باحة الأستاذ الذي ينعم بالإستقرار في مملكته الصغيرة ولا تعكر صفوه لا تعليمات ولا أوامر ..

لكن وهو يصول ويجول بعنفوان في براري التأملات .. إهتدى إلى الخيط الرافيع والناظم المتواجد بين المهنة الشرطية ومهنة التعليم، فعلى المستوى الزجري ،فالضابط في “الكوميسارية” يقوم بزجر المجرمين، والأستاذ في “القسم” لا يتردد في زجر المشاغبين والفوضويين الذين يخرجون عن قواعد ميثاق الفصل، فالأول يباشر مهامه في إطار سلطة يخولها له القانون، والثاني يمارس سلطة”رمزية” تأخد مشروعيتها من مبدأ فرض النظام داخل القسم وتوفير الجو الملائم للتعلم ، فالأول قد يلجأ أحيانا إلى إستعمال العنف من أجل أخد إعتراف ما أو إيقاف ضنين ما، والثاني قد يلجأ بدوره عند الضرورة إلى الضرب أو إستعمال العنف في حدود المعقول من أجل اسئصال شوكة الفوضى والشغب داخل القسم، لكن كلاهما قد يتعرض إلى العقوبات الادارية وحتى الجنائية في حالة إلحـاق الايداء بالغيـر ضنينا كان أو تلميذا..

أدرك بجلاء أن التعليم يسهم في بناء الإنسان المواطن الصالح المتشبع بقيم التربية والمواطنة، فالتلميذ الذي يجلس على مقعد ويشق مساره الدراسي بخطوات ثابتة كما يشق المحراث الأرض العطشــــى، و قــــد يتحول يوما إلى ” شرطي” إذا ما كللت مسيرته بالنجاح ، بمعنى آخر يمكن لقطاع التربية والتكوين أن يسهم في تطوير أداء ومردود المؤسسة الشرطية إذا ما نجح في مدها بتلاميذ متشبعين بالقيم والمثل ويتحلون بالنضج وروح المسؤولية والجدية، لكن وفي حالة الفشل، قد يغادر التلميذ المدرسة في مستويات دنيا، مما يجعله مرشحا للتحول إلى مجرم خارج عن القانون، وفي هذه الحالة تتدخل الشرطة القضائية لزجره، وحتى إذا ما قدر للتلميذ غير المتحلي بالقيم ،الإستمرار في الدراسة، فقد يصبح يوما “حارس أمن” أو “مفتش شرطة”، وفي هذه الحالة سيسهم القطاع في تمكين جهاز الشرطة من أناس يفتقدون إلى الضمير المهني والحس الأخلاقي، وهذا يضعف من الجهاز ويقلل من جودة خدماته ..لكن سيدرك أساسا أن التعليم هو أساس التقدم والرخاء لأنه يسهم في بناء الإنسان المواطن بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولن يستقيم أمن ولا إدارة ولا إقتصاد ولا سياسة، إلا بالتعلم النافع والناجــع …

ينتهى آخر تلميذ من تقديم نفسه، عقب ذلك وزع عليهم أسئلة منتقاة بدقة خاصة بالتقويم التشخيصي، كان يهدف من ورائها إختبار مستواهم المعرفي، ومنحهم زهاء عشرين دقيقة من أجل الإجابة .. كان القسم هادئا هدوء ما قبل العاصفة، وهو يتجول بين الصفــوف، أدرك أن صورة الضابط ما فتئت تنصهر في بوثقة الواقع، مقابل تشكل اللبنات الأولى لشخصية الأستاذ.. لكنه في ذات الآن، كان مدركا كل الإدراك أن “الضابط” وإن رحل، فقد ترك”شخصية الضابط” بكل ما تحمله من جدية وصرامة واضحة للعيــان .. إنتهت المدة المخصصة، وطلب “سليم” من أحد التلاميذ جمع الأوراق ، عقبها أحالهم على الأدوات المدرسية التي يتعين عليهم إحضارها من كتاب مدرسي ودفاتر وأقلام وغيرها، قبل أن يرن جرس الساعة التاسعة صباحا، حينها غادر التلاميذ وإنتهت أول حصة في مسار “الأستاذ” سليم” ، في وقت كان تلاميذ جدد يصطفون تأهبا للدخول في الحصة الموالية ..عند أستاذ في بدايــة مســـار …كان بصدد جني أولى ثمار “التغيير” .. الراحة والإستقرار النفسي والبعد عن الآهات والشكوى التي لا تنتهي .. على أمل جني ثمار أخرى في مستقبل الأيــام ..
o مقتبس من “يوميات أستاذ من درجـة ضابـط”.

كاتب رأي، أستاذ السلك الثانوي التأهيلي بالمحمدية.
[email protected]

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى