كتاب السفير

“الشاف” رشيد .. وجه مشرق للشرطة المواطنة

isjc

* بقلم | عزيز لعويسي

العلاقات بين “المواطن” و”الشرطي” تتقاطع في مفردات “الخوف” و”التوجس” و”النفور” من جانب المواطن، وغالبا ما تصل العلاقة حد “الحقد” و”الكراهية” و”الإدانة”، وهي وضعية مقلقة يمكن تفسيرها من زاويتين اثنتين، أولهما يرتبط بطبيعة المهام الأمنية التي تفرض على الشرطي في كثير من الحالات أن يقف في مواجهة “المواطن” متى خرج هذا الأخير عن جادة القانون والضوابط، وثانيهما، يرتبط أشد الارتباط ببعض السلوكات أو التصرفات غير المسؤولة التي قد تصدر عن بعض الشرطيين، والتي تساهم بشكل أو بآخر، في تكريس صورة نمطية للشرطة، تقوي لدى المواطن أحاسيس الحقد والكراهية لكل من ينتسب للمؤسسة الأمنية بكل فئاتها وانتماءاتها، إلى درجة أن القاعدة العامة التي تحكم نظرة المواطن للأجهزة الأمنية، هي نظرة تباعد ونفور وكراهية، وهذا يضرب عرض الحائط كل المساعي الرامية إلى تغيير الصورة النمطية للشرطة، وجعلها شرطة في خدمة الوطن والمواطن على حد سواء ..

ومن باب الإنصاف، فالنظرة السلبية التي قد يحملها المواطن عن الشرطة، انطلاقا من تصرفات وسلوكات معزولة، لايمكن أن تنسينا الوجه المشرق لمؤسسة شرطية، تحتضن بين ظهرانيها موظفين “أخيار” و”شرفاء” و”نزهاء” يشرفون العمل الشرطي، بجديتهم وانضباطهم وسلوكهم القويم وتضحيتهم ونكرانهم للذات، خدمة للصالح العام، بعيدا عن مفردات “التسلط” أو “التهور” أو “القهر” أو “الخروج عن سلطة القانون”، كما هو الحال بالنسبة لشرطي ينتمي لشرطة السير والجولان بمدينة “سلا” أحيل مؤخرا على التقاعد، تاركا وراء ظهره وهو لايدري، حبا وتعاطفا قل نظيرهما، عبرت عنهما جملة من التعليقات المثيرة للإعجاب بمنصة التواصل الإجتماعي “فيسبوك”، توحدت جميعها حول مشاعر الشكر والمحبة والثناء والتقدير للشرطي، والمعروف في الأوساط السلاوية باسم “الشاف رشيد” ..

وبما أن المجال لا يسمح باستعراض كل التعليقات، فقد تم الاقتصار على ثلاثة منها، القاسم المشترك بينها، كونها صادرة عن رجال تعليم ينتمون لأسلاك مختلفة، أولها تعليق صادر عن أستاذ جامعي مختص في التاريخ، أكد من خلاله أن شرطي المرور “رشيد” يعد “أفضل شرطي قابله في حياته ” على حد قوله، موضحا في هذا الصدد، أنه “كان يسلم عليه عند مروره بسيارته، وكذلك حال الكثير من الناس”، مفيدا “لقد وضع الله القبول في الأرض”، وتعليق ثان لأستاذ التاريخ والجغرافيا بالسلك التأهيلي بالتعليم الخصوصي، أكد بالحرف “أطال الله في عمره، ومتعه بموفور الصحة”، وتعليق ثالث لأستاذة مادة الاجتماعيات بالسلك الإعدادي بالتعليم الخصوصي بقولها “الله يحفظو، عزيز عليا بزاف “، ويبقى التعليق الأكثر تعبيرا، هو لشخص أبدى موقفه من شرطي المرور قائلا بالحرف “وقت لي كنت كنشوفو، كانتفكر وفاة والدي، كان والدي ألمت به وعكة صحية، وكنت ذاهبا للمستشفى، وكانت الطريق مزدحمة، وكان رشيد الشرطي في مدارة حي الأمل، فأوقف لنا “الطريق” (حركة السير) حتى مررنا، ونعم الرجل، أخلاق عالية وآداب وتعامل، ودائم الابتسامة، ربي يحفظو”.

تصريحات إيجابية، فرضت علينا دون تردد كتابة هذا المقال، في حق “شرطي” لانعرف لا إسمه الكامل ولا مكان إقامته ونجهل حتى درجته (مقدم شرطة رئيس أو ضابط أمن)، انطلاقا من قناعة شخصية تتأسس على “عدم تبخيس الناس أشياءها” والإسهام في التعريف بكل ما يعيش بين ظهرانينا من مظاهر التميز والرقي والجمال، في زمن التفاهة والسخافة والانحطاط، وهي تصريحات قلما نتوقف عندها في العالم الافتراضي كما في الواقع، حيث عادة ما تبنى رؤى مسبقة وأحكاما جاهزة عن الشرطيين، تتغذى من مشاعر العداء والكراهية والخوف والتوجس، وهي تصريحات جديرة بالاحترام والتقديرـ صادرة عن “مواطنين” لا يبخسون الناس أشياءهم، تعرفوا على “شرطي المرور”، أو صادفوه في الشارع العام أثناء ممارسة عمله الاعتيادي أو ألقى عليهم التحية في يوم من الأيام، أو عاملهم بلطف ولباقة واحترام، أو أسدى لهم توجيها أو إرشادا .. شرطي مرور أدى الرسالة في صمت، وغادر الصفوف استسلاما لقدر التقاعد، تاركا خلفه “صدقة جارية” عنوانها البارز “حب المواطن” بكل ما ينضوي تحت الكلمة، من “صدق” و”نبل” و”تقدير” و”تنويه” و”ثقة”، وهو بذلك، يقدم الصورة الحقيقية للشرطة “المواطنة” القادرة على كسب “حب” و”رضى” و”تعاطف” المواطنين، وللشرطي “القائد” أو “المايسترو” القادر وحده، على ضبط إيقاعات/تصرفات/سلوكات المواطنين، وفق رؤية متبصرة، تتأسس معالمها الكبرى، على فرض سلطة القانون واحترام المواطن وتقديره ..

في هذا الصدد، لا يختلف إثنان في المكاسب المتعددة المستويات التي حققها موظفو الأمن الوطني منذ سنة 2010، كان آخرها الظفر بنظام أساسي جديد دعم المكتسبات القائمة، لكن ذلك، يبقى غير كافيا، إذا لم تستطع المؤسسة الشرطية صناعة وإفراز “منتوج” شرطي كما هو الحال بالنسبة لشرطي “سلا” الذي كسب “حب” أهل سلا، لأن مقياس نجاح “المؤسسة الأمنية” ليس فقط في نسبة حلها للجريمة أو معالجة القضايا الجارية أو نسبة التدخلات في الشارع العام، ولكن أيضا في درجة “القرب” من المواطنين ودرجة الإصغاء إليهم والاستجابة لحاجياتهم وتطلعاتهم بسرعة وفعالية ودرجة احترامهم وتقديرهم، وكلها درجات ومستويات، تدخل في “منزلـة” التواصل الشرطي الفعال، وبدونها يصعب النفاذ إلى “قلب” المواطنين ونيل ثقتهم في العمل الشرطي والمؤسسة الشرطية ..

شرطي مرور “سلا”، أنسانا الوجه النمطي السلبي للشرطة، الراسخ في “ذهن” المواطنين منذ سنوات طواها النسيان، وأتاح لنا الفرصة، لتلمس الوجه الإيجابي للشرطة، الذي يرسمه “شرطيون” شرفاء نزهاء يضحون بالغالي والنفيس من أجل الوطن، في الحر كما في البرد القارس، وفي الليل كما النهار، وفي الأفراح كما في الأقراح وفي المكاتب كما في الشوارع والطرقات، لا يتحكم فيهم هاجس، إلا هاجس خدمة الصالح العام والحرص الدائم على صون “بيضة” الأمن والاستقرار ..والإسهام بسلوكاتهم المسؤولة، في مواكبة ما تعرفه المؤسسة الأمنية من تحولات مستدامة، في سبيل وضع قواعد آمنة ومستقرة، لشرطة “مواطنة” تمشي قدما في درب التحديث والرقي والازدهار ..

فعش أيها “الشاف” رشيد أو “الضابط” رشيد، حياة آمنة ومطمئنة بعيدا عن مهنة المتاعب والآهات بامتياز .. اغتنم الفرص المتاحة أمامك، وأنت بعيدا عن الصفارة و”الكسوة” والأصفاد ودفتر المخالفات.. للسفر خارج أسوار سلا .. لقراءة كتاب أو الاستماع إلى موسيقى مفضلة أو ممارسة هواية حرمتك منها سنوات طويلة من العمل المتواصل .. اغتنم الفرصة، لتحيى بمعزل عن الصفارة وضوضاء الشوارع والطرقات والمدارات، وآهات “السربيـــــس” وأوجاع وضغوطات الرؤسـاء .. عش وافتخر، فقد تركت خلفك حبا وتعاطفا قل نظيرهما .. افتخر بما قدمت لمهنتك الشرطية ولوطنك، فهنيئا لك سيدي، ومتمنياتنا لك بموفور الصحة والعافية والهناء، وهنيئا لكل الأشراف والأخيار والنزهاء والكرماء، الذين يضحون بالغالي والنفيس خدمة للوطن بمحبة وصفاء ونقـــاء .. وبهؤلاء سيحيى الوطن ، مهما عبث العابثون ومهما فسد الفاسدون ..

إنه “الشاف” رشيد كما يحلو لأهل سلا تسميته، ليست لنا أية معرفة مسبقة به لا من قريب ولا من بعيد، وليس لنا أي علم باسمه الكامل ولا بدرجته الأمنية كما تمت الإشارة إلى ذلك، وتحريرنا لهذا المقال، جاء كتفاعل تلقائي مع ما يكنه أهل سلا لهذا الشرطي المحال على التقاعد من محبة وثناء وتقدير وتعاطف، “شرطي” غادر الصفوف في صمت، تارك خلفه، تعاطفا جماهيريا قل نظيره، في مهنة تبنى على قواعد الانضباط والجدية والصرامة، وهو بذلك، يشكل مرآة عاكسة للوجه المشرق للشرطة، التي لا تسلم من سهام الإدانة والتنديد والعتاب والنقد الهدام، من قبل مواطنين لا ينظرون إلا إلى الجانب الفارغ من الكأس، ونستطيع الجزم في القول، أن كل المهن والوظائف، يتعايش فيها بدرجات متفاوتة، “الصالح” و”الطالح” و”المنضبط” و”المتهور” و”المسؤول” و”العبثي” و”الجدي” و”الوصولي” و”الانتهازي”.. ومن مسؤوليتنا جميعا، توجيه البوصلة نحو كل من يرسم لوحات التميز والرقي والإبداع والجمال ..

وجه يعكس صورة مشرقة ليست”استثناء”ولا “قاعدة” في مهنة توجد دوما “تحت المجهر”، كمرآة عاكسة لسلطة القانون ولهيبة الدولة والمؤسسات، وهي حالة جديرة بالاحترام والتقدير، تقوي الآمال في تلمس “شرطة مواطنة” تتأسس أهدافها ومقاصدها على خدمة الوطن ومد جسور التفاعل الفعال مع المواطن، وهذه “الشرطة المواطنة” تعد مطلبا مجتمعيا، لا يمكن ترجمته على أرض واقع الممارسة، إلا بشرطيين “نزهاء” و”شرفاء” يتحملون مسؤولياتهم الجسام، في إطار من التضحية ونكران الذات واحترام القانون والوفاء والإخلاص للوطن ولمقدساته، والإدارة الشرطيةـ تتحمل وحدها دون غيرها، مسؤولية تطهير الجسد الشرطي من كل الشوائب التي من شأنها المساس بسمعة المؤسسة الأمنية ووقارها وهيبتها ..

وهذا الرهان لن يتحقق، إلا بالصرامة وتضييق الخناق على “العابثين” و”المتهورين”، وتعقب كل الممارسات الفاسدة، قائمة كانت أو محتملة، من أجل “شرطة” بمواصفات عصرية، تتأسس على دعامات “الحكامة الأمنية الرشيدة” بكل ما ينضوي تحت لوائها من “تواصل” و”انفتاح” و”التزام بالقانون” و”فعالية” و”قرب من المواطن” و”سرعة في معالجة القضايا” و”شفافية” و”محاسبة”، وهي مرتكزات، لايمكن البتة كسب رهانها، إلا بالتطبيق السليم لمبدأ “ربط المسؤوليات بالمحاسبة” لقطع الطريق، أمام كل من يلهث وراء الكراسي ويتهافت على المسؤوليات، بحثا عن المكاسب وتسلق الدرجات، مع الحرص على تعزيز آليات “العدالة” و”الإنصاف” وإسناد المسؤوليات، على أساس معايير “الكفاءة” و”الجدارة” و”الاستحقاق” و”النزاهة” و”السلوك القويم”، من منطلق، أن بناء صرح الشرطة المواطنة، لا يمكن أن يرفع، إلا بسواعد أمينة، وقلوب مواطنة، لا تتحكم فيها أية هواجس، إلا هواجس خدمة الوطن والإسهام في رقيه وازدهاره ..

والمديرية العامة للأمن الوطني، التي قطعت أشواطا مهمة منذ بداية الألفية الثالثة، في درب تحديث طرق ومناهج عملها، وتأهيل رأسمالها البشري بما تقتضيه المهنة الشرطية، من معارف وتقنيات وكفايات تواصلية، لامناص لها اليوم، من استثمار التجارب المهنية لموظفيها، وما قد يتخلل بعضها من قصص نجاح وتعاطف جماهيري، كما هو الشأن بالنسبة لحالة شرطي مرور “سلا” المتقاعد، واتخاذها كدعامة تسمح بالتفكير في كل السبل الممكنة القادرة على صناعة “رجل شرطة ” بمواصفات عصرية، يمتلك الكفايات المعرفية والأمنية والتواصلية، ويتملك في نفس الآن السلوك الحميد الذي يعـد “أس” الإصلاح و”أساس” التحديث” ..

[email protected]

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى