في الواجهةكتاب السفير

ظاهرة التشرميل … أوقفوا نزيف الدّم

isjc

* يسين العمري

تمهيد: 

يعني “التشرميل” اعتراض سبيل المارّة و الاعتداء عليهم جسدياً، و سلبهم ممتلكاتهم بالقوة، و تعريضهم للعنف باستخدام السلاح الأبيض، و هو بهذا المعنى يعتبر ظاهرة قديمة و ضاربة في جذور التاريخ في مختلف المجتمعات، المتحضّر منها و المتخلّف كما هو حال مجتمعاتنا العربية و الإسلامية، و في مقدّمتها المغرب، الذي يعرف مؤخّراً تنامياً مقلقاً و غير مسبوق في تزايد نسبة التشرميل بالفضاء العامّ. فما أوجه الظاهرة؟

لكن بعد التطرّق لأوجه و مظاهر، أرى أنّه منهجياً لا بدّ من عرض أسباب و طرح حلول للحدّ منها.

1- التشرميل في الفقه الإسلامي (حدّ الحِرَابَة):

يقصد بالمحارِب (المشرمل) المعني بحدّ الحرابة في الفقه الإسلامي هو من يخرج على الناس بالسلاح و يعتدي على أموالهم و أنفسهم و أعراضهم، و تعتبر هذه الأعمال من المعاصي المنهي عنها باعتبارها فساداً و إفساداً في الأرض و تعدّياً على الغير (كما في الآية 77 من سورة القصص “و لاتبغِ الفساد في الأرض إن الله لا يحبّ المفسيدين”)، لذلك فإن عقوبة هذه الجريمة في الإسلام شديدة جدّاً، و جُعلت شديدة لأنّ لها هدفان، أحدهما الحيلولة دون ارتكاب الجريمة، و ذلك من خلال زجر و ثني من يفكّر في ارتكابها و تخويفه من سوء المصير، و الهدف الثاني ردعي، بمعنى أنه في حالة ارتكابها يكون تطبيق العقوبة في حق المجرم لتجعل منه عبرة للآخرين، و بالتالي يُزجرون و يرتدعون.

إنّ عقوبة “المشرمل” أو “المحارِب” في الإسلام هي أن يُقتَل أو تقطع أيديه و أرجله من خلاف (يد يسرى و رجل يمنى أو يد يمنى و رجل يسرى)، و أن يتم صلبه، و أن يتمّ نفيه من البلد، كما جاء في الآية 33 من سورة المائدة “إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فساداً أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفوا في الأرض ذلك خزي لهم في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم”.

كما أن الفقه الإسلام، بالإضافة للعقوبات التي جعلها من حقّ القاضي و الحاكم دون آحاد الناس، فقد جعل لهؤلاء أيضاً إمكانية الدّفاع عن أنفسهم حتى الموت، فقد ورد في الحديث النبوي :  “مَن قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتلَ دون دمه فهو شهيد، و منْ قُتِل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتِل دون أهله فهو شهيد”، و في حديث آخر: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال:  فلا تعطه مالك قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال قاتِلْهُ. قَالَ: أرأيت إنْ قَتلَني؟ قال:  فأنت شهيد قال: أرأيتَ إن قَتَلْتُهُ؟ قال: هو في النار”.

و نلاحظ أن قانون العقوبات الإسلامي “تَشدَّدَ” مع “المشرملين”، و شخصيا أتبنّى هذه المقاربة، لأنني أرى أنّهم عضو فاسد يجب بتره، لستريح الناس من شرّهم، و لكي يخاف من تُسوّل له نفسه ترويع الآمنين، من عقوبة أقصاها القتل و أوسطها قطع يد و رجل و أدناها الصلب و النفي من البلد.

2- التشرميل في القانون الجنائي المغربي:

يمكن النظر “للتشرميل” من زاويتين، فإذا اقترن العنف بسرقة المال المملوك للغير، فيمكن إدراجه في باب الجنايات و الجنح المتعلقة بالأموال، التي تنظمها الفصول من 505 إلى 521 من القانون الجنائي المغربي، و تتعلّق السرقة عموماً و السرقة بالإكراه في بعض المواد. 

أما إذا كان الأمر دون اقتران بالسرقة، فيمكن أن يتم تكييفه “جنحة الضرب و الجرح العمدي”، و إدراجه ضمن باب الجنايات و الجنح المتعلقة بالأشخاص، و تنظمها الفصول من 392 إلى 404 من القانون الجنائي المغربي.

و كل المواد و الفصول المشار إليها فيها عقوبات حبسية و غرامات مختلفة، ولكن بالطبع للمحكمة سلطة تقديرية في أن تحكم على المدان بالعقوبتين معاً (حبس و غرامة)، أو إحداهما فقط، و لها كذلك أن تخفف العقوبة وتنزل بها عن الحد الأدنى، أو تصعد بها للحدّ الأقصى، أو أن تجعلها موقوفة التنفيذ. لأنّ العقوبة ستكون حسب تكييف الفعل من طرف القاضي، و هذا ما يسمّى في القانون الجنائي “تفريد العقاب”، لأنّ لكل جريمة ظروفها و ملابساتها و حيثياتها.

لكن في تقديري أنّ السياسة الجنائية الحالية في المغرب، أفشل من الفشل بعينه، ذلك أنّ الملاحظ هو أنّ “المشرملين” يحظون بعقوبات مخفّفة، و يتمتّعون داخل السِّجن بظروف قد لا تتوفّر لمن هم خارجه، و بتنا نرى رأي العين المجرم “المشرمل” يدخل للسِّجن نحيفاً و يخرج منه في حجم “الغول”، و الأدهى و الأنكى و الأمرّ هو أنهم يخرجون أحياناً قبل انقضاء فترة سجنهم، متمتّعين بعفو ملكي أحياناً.

إن مثل هذه السياسة الجنائية المتّبعة، أراهن و أجزم أنها لن تقضي على “التشرميل” بل ستساهم في تفريخه، لأنّها لا تردع و لا تزجر المجرم، و في معرض اقتراحاتي للحدّ من الظاهرة سأحاول طرح بعض الأفكار في هذا الصّدد.

3- التشرميل من وجهة نظر حقوقية و اجتماعية و نفسية و أمنية:

سأحاول عدم الاستفاضة كثيراً في هذا المحور، لأنه يستلزم بحثاً أكاديمياً و ليس مقال رأي صحفي، لكن سأسرد بعض الأمور بتلخيص و تركيز شديدين.

أ- “التشرميل” من وجهة نظر حقوقية:

طبعاً المدافعون عن الحقوق و الحريات، يرون أنّ “المشرمل” و إن كان جانياً، فمن حقّه الاستفادة من محاكمة عادلة بضمانات و شروط، تضمن عدم الإجحاف في حقّه، و يرون في حقّ الحياة أقدس الحقوق، لذلك يرفضون رفضاً قاطعاً عقوبة الإعدام.

طيعاً، و إن كنّا نقرّ أن الهدف نبيل، و لكن في هذه الحالة تمّ إغفال بل و التعسّف ضدّ المجني عليه و حقوقه، فالمجني عليه الذي تُسلب حياته، أو ممتلكاته، أو يتعرّض للأذى الجسدي، من حقّه أن يُقتَصَّ له من الجاني، و من حقّ المجتمع أن يسود فيه الأمن و السلامة و السكينة لجميع أفراده.

إنّ من يأمن العقوبة يسيء الأدب، و الجاني يعرف مسبقاً أنّ هناك جمعيات ستُدافع عليه بعد ارتكابه الجريمة، و يحاول إدماجه في المجتمع بعد الخروج من السِّجن،، و يعرف مسبقاً أنّ العقوبة مخفّفة، و أنّه قد يخرج حتّى دون استكمال مدّة العقوبة.

و في حقيقة الأمر، لا أتعاطف مع وجهة النظر الحقوقية بتاتاً في هذا الصّدد.

ب- “التشرميل” من وجهة نظر اجتماعية:

يعتبر المشرمل عضواً من المجتمع، لكنه هناك من يراه عضواً فاسداً يجب بتره، و من يراه بدوره ضحية ظروف معيّنة تفرض محاولة إصلاحه و تهيئة الظروف له لمعاودة إدماجه، و هكذا ينقسم المجتمع في النّظر إلى “المشرمل” وفق مقاربتين، أولهما “الوصم الاجتماعي”، و ثانيهما “الإصلاح و الإدماج”.

فالمقاربة الأولى تقوم على إقصاء المجرم و عدم التعامل معه نهائياً، و شخصياً أنا من أنصار هذا الرّأي، في حين تقوم المقاربة الثانية على عدم نبذ المجرم، لأنّه لو تمّ توفير ظروف ملائمة له عائلياً و تعليمياً لما كان حاله كذلك، و الواقع هذه نظرة مخطئة بل قاصرة، فكم من مليون شاب تربّوا في ظروف عائلية بئيسة، و تعليمية أكثر بؤساً و شقاءً لكنهم نجحوا، و صاروا نماذج، و كم من مليون شاب نشأ في أسرة وفّرت له كلّ ظروف النجاح لكنه أصبح مجرماً، لأنّ الانحراف لا علاقة له بالجريمة، و لا أستثني من هذا الأمر سوى من أصبح مجرماً بالصّدفة، مثل من حاول الدّفاع عن نفسه أو عن غيره فارتكب جريمة لإنقاذ نفسه أو غيره.

إنّ من يحاول إلصاق التشرميل بما يسمّى “أحزمة الفقر” واهم، فهناك مشرملون من عائلات ميسورة، الفرق أن المشرمل الفقير يستعمل السكين ليسرق أو ليصفّي حساباً، و المشرمل الغني يستعل “كريموجين” ليلهو و يلعب و يبدّل الروتين و يمارس انحرافه.

ج- “التشرميل” من وجهة نظر نفسية:

أعتقد أن “المشرمل” كائن مريض نفسياً و منحرف سلوكياً، يمتلك نوازع الشّرّ و الكراهية، و يحبّ السيطرة و العنف، و لديه ميل فطري أو مكتسب لتعذيب الآخر و التلذّذ بذلك، خصوصاً الفئة التي تسلب المواطن نقوده، و مع ذلك تعرّضه للعنف الشديد باستعمال السلاح الأبيض، فتشقّ وجهه نصفين أو تجدع أنفه، أو تقطع أذنه، و هي جرائم غير إنسانية، انتهت منها الحضارات منذ القرون الوسطى، و كانت تسمّى عند قدماء العرب مثلاً “التمثيل”.

و يعتقد الكثيرون أن السادية متعلقة فقط بالأفعال و الاعتداءات الجنسية، لكن علماء النفس أكّدوا عبر دراساتهم بأنّ السادية تشمل مجموعة من الأعمال اليومية الشّرسة التي يقوم بها الشخص السادي كالقتل و السرقة، و قد أكّد علماء النفس أن السادية عبارة عن مجموعة من الاضطرابات النفسية التي تصيب الفرد و المجتمع بشكل عامّ.

و أردّ على من يقول أن المريض ينبغي علاجه، بأن بعض الأعضاء قد يكون علاجها بالبتر أو الكيّ بالنار.

د- “التشرميل” من وجهة نظر أمنية:

ترتبط ظاهرة التشرميل وفق أمنيين بظاهرة تناول “الأقراص المهلوسة”، و تربية كلاب مخيفة و شرسة، إضافة إلى حمل سيوف و سكاكين كبيرة الحجم، لترويع المواطنين الأبرياء. لذلك تجد الكائن “المشرمل” شديد العدوانية، لا يخاف من رجال الأمن، و لا يردعه سوى الرّصاص الذي يرديه أرضاً.

و ترتبط هذه الظاهرة ليس فقط بالسرقة، بل قد ترتبط بالاغتصاب، أو القتل، أو الاختطاف … الخ من الجرائم الأخرى التي قد ترتبط بالتشرميل.

لكن السؤال المنطقي الذي يتردّد على ذهني مرات و مرات، إنّ عدد رجال الشرطة في المغرب لا يتعدّى في أحسن الأحوال 300.000 رجل شرطة موزعين على تراب المملكة، و منهم من يشتغل في الإدارة، و منهم من هو على أبواب التقاعد، و المغاربة شعب يناهز الأربعين مليوناً، و بالتالي لا يمكن منطقيا و عقلا لهذا العدد أن يسيطر على الموقف.

أخيراً:

يمكن القول أن من بين أسباب ظاهرة التشرميل تفشي البطالة، تفشّي الفقر (عامل غير مؤثر بالنسبة لي)، قلّة الوعي، ممكن أن نضيف انعدام الوازع الأخلاقي و الديني، و السياسة الجنائية الفاشلة المشجّعة على تنامي الظاهرة، البرامج الصحفية مثل أخطر المجرمين التي فتحت الأعين و سلّطت الضوء على هذا الملف، فأصبح البعض يعتبر الضيوف في البرنامج نماذج بالنسبة له. و أخيراً يمكن القول أن المقاربة الحقوقية أيضاً عامل محفّز على ارتكاب الجرائم المتعلقة بالتشرميل.

طبعاً الأسباب كثيرة جدّاً، لكننا نحاول فقط ضرب أمثلة.

أمّا الحلول، فيبقى أمامنا إمّا تفعيل حدّ الحرابة الذي ينصّ عليه الدين الإسلامي الذي هو بمقتضى الدستور دين الدولة، أو وضع عقوبات قاسية، و عدم التسامح بتاتاً مع المشرملين، مثلاً لماذا لا يتمّ استغلالهم في أعمال حفر الطرقات و الأشغال الشّاقة، عوض السجن “خمس نجوم” و التمتّع بظروف التخفيف أو الخروج قبل انقضاء المدّة.

شخصياً لا أؤمن في جرائم التشرميل (طبعا المصطلح غير موجود في القانون)، إلا بالمقاربة الأمنية، و تشديد العقوبات، لأنني أعتقد جازماً أن نهج مقاربات أخرى مثل المقاربة الحقوقية أو الإصلاحية أو الـاهيلية أنما هي ضروب من العبث، بل هي العبث نفسه، و لن نرى سوى إزهاق المزيد من الأرواح، في ظرف أسبوع (المنصرم) تمّ بتر أذن شاب في حي مولاي رشيد بالدار البيضاء، و قتل أستاذة اللغة الإنجليزية بسطات، المسماة قيد حياتها “سعيدة” رحمها الله، و يوم أمس تمّت شرملة شاب في حي البرنوصي بالدار البيضاء، و بتر جزء من ساقه، و هذا دون احتساب ما يقع في مدن أخرى كسلا و فاس و القنيطرة… و أكيد أن عدّاد “التشرميل” لن يقف ما لم يتدخّل من بيدهم الأمر بيد من حديد، بدون ارتخاء و بدون ارتجاف، لسحق كلّ من يعكّر صفو المجتمع و سلامه.

  • باحث في القانون الخاص و الإعلام

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى