أقلام حرةفي الواجهة

على الجسر

isjc

* بقلم: د. محمد سعيد / كاتب مصري

خرج الجدُّ منفعلاً بالغيظ والغضب من الأب الذي يرفض استكمال تعليم ابنته في المرحلة الابتدائية بدعوى أنها فتاة، ومستقرها أولاً وأخيراً هو البيت وبين الحريم؛ فلم يلتفت الجدُّ إلى دابة كانت تعبر الطريق مسرعة فألقت به على الأرض المرصوفة بحجارة صخرية، فلم ينهض على ساقيه بعد ذلك قط!.. حملوه إلى البيت، ومضت شهور يطوفون به على أطباء العظام ومشهوري المجبرين، إلى أن انتهى به المطاف إلى فراشه، ليمضي ما بقي من سنوات عمره كسيحاً مقعداً. وعاشت الفتاة معه محنته، وأرهقها الشعور بعقدة الذنب لتلك الإصابة التي لا تُجبر، فلزمتْ غرفته لا تبرحها، حتى إذا حان افتتاح الدراسة بالمدرسة، أصرّ الجدُّ على ذهابها إليها لا يبالي ما قد يلحق به من أذى، ولم يعترض الوالد الذي رق للشيخ الكسيح في محنته، وسَكَتَ على مضض حين أرسلها الجد إلى المدرسة، وكأنه كَرِه أن يتصدى لمعارضة الشيخ المقعد في الرغبة الوحيدة التي تعلق بها، وزادته المحنة إصراراً عليها وتشبثاً بها.

وبدأ اتصال الفتاة بالصحافة والحياة بطريق غير مباشر، فلقد كانت الهواية الوحيدة للجد بعد أن قيدته الحادثة إلى فراشه، أن يتتبع ما تنشره الصحف من أخبار، كما كانت مشغلته التفكير في إنقاذ مدينته من الموت الاقتصادي الذي يهددها بتراكم رواسب النيل عند مينائها في المصب على ساحل البحر. وكان من واجبات الفتاة اليومية أن تشتري الصحف لتقرأها له ثم تجلس إليه في عطلة الأسبوع ليملي عليها شكاوى تعيد صياغتها بأسلوبها ليبعث بها إلى الحكام، وإلى الصحف اليومية في موضوع تعطل الميناء وحوادث غرق السفن الشراعية أثناء عبورها لكثرة ما تراكم في الميناء من رواسب على مر الزمن.. وبهذا أحبت الفتاة الكتابة، وأرضاها أن تطالع في الصحف ما تكتبه تعبيراً عما كان الجد يمليه عليها، فمضت تتفنن في الأسلوب لتجويده قدر طاقتها..

وهكذا عَبَرَت عائشة عبد الرحمن الجسر لترتبط حياتها بالتعليم والصحافة والثقافة، وتسبق عمرها لتجاوز القدر المكتوب لها من رؤى الصبا ليمتد خيط غير مرئي بين الشوط الأول من شاطئ النهر وبين ما انتهى إليه طريقها العلمي الذي انتهت إليه فصارت.. بنت الشاطئ. 

وما تزال تدين بكبير فضل إلى جدها لأمها الذي تتبع آثار خطاها الأولى على درب التعليم قبل أن تبلغ سن العاشرة من عمرها. إنه درس للآباء والأمهات والمربين لتعهُد كوامن الإبداع لدى أبنائنا؛ فنكون بذلك سُرُجاً مضيئة في حياتهم تهديهم الطريق المخطوط لهم في لوح القدر، ليُفضِي بهم إلى الدرب الذي يجدون فيه ذواتهم.

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى