في الواجهةكتاب السفير

اليسار المغربي انتصار في الخطابات و فشل في الانتخابات !

isjc

* الصادق بنعلال

1 – ما من شك في أن مسعى بناء تجربة سياسية حديثة ، تستند إلى مستلزمات المنجز الديمقراطي الكوني يستدعي حزمة من الإجراءات و الآليات المحورية ، من قبيل وجود هيئات حزبية وطنية مستقلة تحمل مشروعا مجتمعيا و برنامجا واضح المعالم ، يأخذ بعين الاعتبار إحداثيات المسار السياسي العالمي و الخصوصيات السوسيو ثقافية العربية الإسلامية . فعلى الرغم من التطور العميق و المؤثر الذي أصاب النسق السياسي التقليدي ، إلا أنه مازال عندنا متسع من الحديث عن “جاذبية” مفهومي اليسار و اليمين ، و عن إمكانية استمرارهما في المنافسة المشروعة ، من أجل بلورة منظومة سياسية قادرة على التعاطي الراجح مع قضايا المجتمع و متطلباته ، خاصة و أن صيحات طفقت تعلوهنا و هناك تدعو بحماس تارة و باستحياء تارة أخرى ، إلى “رص صفوف الأحزاب “اليسارية” و جمع شملها و إغناء إمكاناتها ، من أجل مواجهة الخصم اليميني “المتطرف” ، و إعادة الاعتبار للقيم الإنسانية النبيلة التي طالما ضحى من أجلها رواد الفكر السياسي “الاشتراكي” على وجه الخصوص ، و العمل من أجل تجسيد “المشروع المجتمعي الحداثي” . فإلى أي مدى يمكن الزعم بوجود كيانات يسارية قوية في المغرب ، قادرة على كسب الرهان في الاستحقاقات الوطنية ، و مستعدة “لمصارعة” منافسيها ذوي النزعات الليبرالية و الدينية ؟ و الذود عن أحلام الشعب و تطلعاته نحو “الإقلاع التنموي الشامل” ؟

2 – و قد شهد المغرب قبيل و بعد الاستقلال حضورا فعالا “للعقيدة” اليسارية ، تمثلت بشكل محدد في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، ثم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ، فضلا عن إطارات أخرى مثل منظمة العمل الديمقراطي . و الحق أن مناضلي و زعماء هذه التشكيلات السياسية لعبت دورا رئيسيا إلى جانب مكونات وطنية أخرى ، في تحديث المجتمع و تطوير بنياته الاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية ، و المساهمة في نشر القيم الإنسانية الرفيعة ، في مناخ لم يخل من تجاذب و استقطاب عنيفين ، و هل يمكن أن نتجاهل تضحيات و نضالات عبد الله إبراهيم و عبد الرحيم بوعبيد و الفقيه البصري و عبد الرحمن اليوسفي و محمد بن سعيد آيت يدر .. من أجل مغرب الازدهار و العدل و الحرية ؟

3 – لكن و تحت ضغط عوامل موضوعية خارجية و أخرى ذاتية داخلية أصيب ، اليسار المغربي بفيروس الانشقاق و التشتت ، فأصابه الوهن و أحاط به الضعف من كل جانب ، و إذا ألقينا نظرة خاطفة على نتائج الانتخابات الجماعية و البرلمانية الأخيرة ، ألفينا أحزابنا الاشتراكية العتيدة تتذيل لائحة المنافسين ، و تتجرع مرارة المراتب المتدنية . فما الدواعي الحقيقية التي كانت وراء هذا المصير غير المقبول وهذه النهاية المأساوية ، لأقطاب طالما أصرت على خيار التضحية من أجل وطن التقدم و الكرامة الإنسانية ؟ دون أن نقلل من شأن تدخلات و تأثيرات السلطة في سنوات الجمر الرصاص ، فإن  العوامل الذاتية كانت أقوى و أشد . و مما يثير انتباه المهتم بالشأن السياسي المغربي هو عدم اهتمام الأحزاب اليسارية المعنية بالأمر، بالتأسيس لثقافة الفكر الحديث ؛ الداعية إلى الانفتاح و التعددية و قبول النقد الذاتي و الخارجي، و رفض تبجيل “الأخ الكبير” أو الزعيم الرائد ، و تجديد القوانين الداخلية و تطعيمها بما حدث في عام السياسة المليئة بتطورات غير مسبوقة ، و العمل المتواصل على البحث عن الكفاءات و أصحاب الخبرة في مجال الثقافة و الاقتصاد و السياسة ..  بل من المدهش و المقلق جدا أن نرى زعماء طاعنين في السن مازالوا على رأس أحزابهم ، دون أي رغبة في تسليم المشعل للأجيال الجديدة الحاملة لتصورات و آراء و برامج ، تنسجم و منطق القرن الواحد و العشرين . و لعل الهوان الذي ران على الجسد اليساري يعود بالدرجة الأولى إلى شلل في الاجتهاد و عقم في الطاقة الاقتراحية و تمسك مأساوي بالكرسي ، حتى و لو كانت السفينة بصدد غرق لا غبار عليه !

4 – و بالتالي فإن أي نهوض يساري في المغرب رهين بإحداث تغيير جذري لا يقتصر على المطالبة الموسمية “بالانفتاح و المصالحة” داخل القاعات المغلقة ، و لا  بالدعوة هنا و هناك لتوحيد الصفوف من أجل النهضة و الحداثة ؛ بعقل غير ناهض و لا حديث .. بل إن الشرط المحوري لأي انطلاقة فعلية و بناءة ليسار وطني واعد و منتج ، تتجلى في رأيي الشخصي في عدد من المحددات أقلها :

– عقد لقاء تاريخي مفصلي يشمل كل الهيئات السياسية اليسارية “الكبيرة” و الصغيرة ، للتداول في القضايا المشتركة الأيديولوجية و التنظيمية و النضالية في روح من التآلف و الوئام ، مع القطع مع لغة التعالي و الأستاذوية و الإملاء الفوقي المتقادم.

– انسحاب طوعي م هادئ لكل “الزعماء” الراهنين و خاصة الشيوخ منهم ، و إعداد المناخ الملائم لجيل الثقافة الجديدة  و وسائل التكنولوجيا الحديثة و مواقع التواصل الاجتماعي ، و تكليف ذوي الكفاءات و تحميلهم مهام المسؤوليات العامة ، بعيدا عن مسلكيات القرابة و أخواتها .

– التشبع بالقيم الديمقراطية الكونية بحصر المعنى ، لأنه لا يمكن السهر على بلورة مطلب عزيز و غال في المسيرة التاريخية للأمم و الذي هو الانتقال الديمقراطي ، بذهنية تنزع نحو خدمة المصالح الخاصة و الضيقة ، و هل يمكن ضمان تجربة حكم ديمقراطي راشد بخلفية الاستبداد و الإقصاء و التسلط و الانفراد بالحكم ؟

– الانشغال بهموم المواطنين ومشاكلهم الحياتية الملموسة ، من تعليم و صحة و سكن و إصلاح إداري و تحسين المعيشة و عدالة و حرية و كرامة إنسانية .. و باقي مكونات بنية “الفلسفة اليسارية” ، دون الاقتصار على “الانفتاح” على قضايا غير مطابقة للواقع المجتمعي ، و بعيدة نسبيا عن آلام الشعب و جراحه و تطلعاته .

– ضرورة خلق التوازن المطلوب بين الانفتاح المشروع على المستجدات الحضارية الكونية العامة ، و احترام الخصوصيات المجتمعية و الثقافية للأمة ، كل ذلك مع التمسك اللامشروط بالمواثيق و الأعراف و الاتفاقيات الدولية و القوانين المنظمة لحياتنا المجتمعية . بهذه الخطوات الثورية و ليس بغيرها ، يمكن أن تعود لليسار المغربي حركيته و فعاليته و أنفته من “أجل المساهمة الفاعلة في ازدهار البلاد وصناعة مستقبل أفضل” !

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى