في الواجهةكتاب السفير

الهــدر “فيه” و “فيه”

isjc

* بقلم : عزيز لعويسي

“الهدر” درجات وألوان، مفهوم يتمدد بأناقة وعنفوان، يحضر في المدرسة والجامعة، يتعايش في أحضان السياسة، يعيش في كنف الأحزاب السياسية وفي عالم المال والأعمال، وينتشر كالفطريات في العالم الافتراضي، ويحضر في رحاب المجتمع، ويسري في سلوكاتنا و ممارساتنا اليومية، كما تسري الدماء في العروق ..

هناك “الهدر” المدرسي، الذي يضع عنوة أطفالا وتلاميذ خارج النص، لا هم تعلموا ولا هم تخلصوا من مخالب الأمية وما يدور في فلكها من جهل وهشاشة وإقصاء .. هناك “الهدر” الجامعي، الذي يلتهم في صمت شرائح عريضة من الطلبة، الذين يغادرون المدرجات على مضض، بعدما فقدوا البوصلة في حرم الجامعات، نتيجة التعثر البنيوي أو العبث أو اللهو أو التيهان، بشكل يجعل شرائح عريضة من الشباب ليس فقط، خارج نسق التربية والتكوين والتأهيل المهني، ولكن خارج دوائر المراقبة والتتبع والمواكبة والاهتمام ..

هناك “الهدر” بجلباب السياسة، ونختزله في استنزاف الطاقات والقدرات في المعارك الخفية والمعلنة والضرب تحت الحزام، واقتناص خطايا وزلات الخصوم، بدل الانكباب على قضايا الأمة والتباري بشرف في تصحيح مسارات التنمية وما يعتريها من أعطاب ومشكلات متعددة المستويات، في مشهد يبدو كمباراة في كرة قدم، يتم اللعب فيها بدون خطط أو تكتيك وبدون أهداف واضحة، نحرص على اصطياد أخطاء الخصوم ، ونتلدد بخطاياهم وكبواتهم وزلاتهم، بدل اللعب النظيف والتباري بشرف، من أجل تسجيل الأهداف المأمولة ..

هناك “الهدر الحزبي”، الذي تحضر فيه مفردات الأنانية المفرطة وجبر الخواطر والانصياع للولاءات والتنكر للكفاءات والتوجس من الخصوم، والتهافت على التموقع الجيد في خريطة سياسية بدون عنوان ولا مفتاح، والانشغال بالتسخينات المبكرة ترقبا للاستحقاقات القادمة، وكلها ممارسات وغيرها، يضيع معها الزمن، وتضيع معها فرص إعادة ترتيب البيت الداخلي، بما يضمن الفاعلية والنجاعة، بشكل يعيد الثقة للمواطن في الأحزاب السياسية وفي الانتخابات والعمل السياسي ..

هناك “هدر المال العام” بطرق وأساليب غير مسؤولة، في ظل محدودية تفعيل “مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة” والتحايل على القانون والإفلات من العقاب، بشكل يعمق بؤر اليأس وانسداد الأفق، ويغدي مسيلات فقدان الثقة والنفور، بدل التحلي بروح المسؤولية وقيم المواطنة الحقة خدمة للصالح العام، وإسهاما في رقي الوطن وازدهاره..

هناك “الهدر الافتراضي” أو “الرقمي”، الذي نختزل تفاصيله في الزمن التي تضيعه بعض الكائنات الرقمية في ممارسة كل أشكال العبث والتهور والتفاهة والسخافة، في مواقع التواصل الاجتماعي، من سب وشتم وقدف وانتقاد هدام وخوض في الحياة الخاصة وانتهاك حرمات وأعراض، الناس بدون خجل أو حياء، كائنات رقمية تتكلم في كل شيء، تخوض في كل شيء وتنتقد كل شيء، وتعارض كل شيء وتسب كل شيء، في عالم افتراضي، أضحى كالحصان المتمرد، الذي يصعب ضبطه وترويضه والتحكم في حركاته أو سكناته، بدل التحلي بروح المسؤولية والاحترام والارتقاء بمستويات الخطابات والنقاشات..

وقبل هذا وذاك، هناك “الهدرة”.. أصبحنا نتكلم كثيرا، ونعمل قليلا، نهدر الزمن في المكاتب والأسواق والمقاهي والبيوتات، نسخر طاقاتنا في “الشفوي”، ونجتهد ما استطعنا في ضرب بعضنا البعض بالتهكم والإساءة والإهانة، بدل أن نحترم ونقدر بعضنا البعض، نتصافح بصدق ومحبة وصفاء وبنوايا حسنة، نمد الأيادي إلى بعضنا البعض، نتعاون، نتشارك ونتبارى بشرف في المبادرات الرصينة، ونتهافت بدون خلفيات هدامة أو نعرات سامة، من أجل إيجاد الحلول الممكنة لما يعترينا من أعطاب ومشكلات تنموية، بشكل يعطي للسياسة معنى وللانتخابات مغزى..

سئمنا من “الهدر” وضقنا ذرعا من “الهدرة” التي لا تزيد “طنجرة” العبث إلا ضغطا، و”طنجية” السياسة إلا ارتباكا وغموضا، فالعبرة ليست في النزول إلى الحلبة وخوض صراع الديكة، وليست في تملك مهارات الاستفزاز وتوزيع صكوك السب والإدانة يمينا وشمالا، أو حتى إتقان اقتناص الفرص والضرب تحت الحزام، أو التمادي في اللغط أو التغريد خارج السرب، العبرة فيمن يشتغل ويفكر ويبادر ويجتهد في صمت بعيدا عن اللغط وأخواته، العبرة فيمن تنازل ويتنازل عما يسكنه من أحاسيس الأنانية المفرطة، ومن جنوح أعمى نحو المصلحة الخاصة بعيدا عن قضايا الوطن وتطلعات المواطنين، العبرة فيمن أدرك ويدرك درجة الانكسارات، ويقدر حجم الانتظارات والتحديات الآنية والمستقبلية المرتبطة بالأساس بالنموذج التنموي المرتقب الذي يعول عليه، لتصحيح مسارات التنمية وتحقيق الإقلاع التنموي الشامل..

نتحمل جميعا مسؤولية “الهدر” و “الهدرة”، وما علينا إلا أن نعود إلى رشدنا ونطوي صفحة خلافاتنا الهدامة، فقد ننجح في الإساءة لبعضنا البعض، وقد ننتصر لنعراتنا في مباراة بدون هوية، لكننا بقصد أو بدونه، نكون قد أسئنا للوطن الذي يعد بيتنا المشترك، وحرمناه من فرص النهوض والارتقاء، في زمن لا يقبل بالمتصارعين أو المتحاربين أو العابثين، وليس أمامنا من خيار، ســوى الإنصات لبعضنا البعض باحترام وتقدير، ونتبارى بشرف – كل حسب موقعه – في الاسهام الجماعي ، لكسب رهان “النموذج التنموي المرتقب” وما يفرضه من تعاون وتشارك وتضامن وتعاضد، لرسم معالم مستقبل زاهر لنا ولأبنائنا ولأجيالنا اللاحقة، في إطار الالتفاف حول “ثوابت الأمة”، في ظل “وطن” يسع الجميع ويحتضن الجميع بحب ومحبة وعدالة وإنصاف … وطن من أجله كتبنا، ومن أجله سنكتب ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، لا تتحكم في خطنا التحريري، لا مرجعيات تفرمل القلم، ولا ولاءات تكبح جماح ما نحمل في عوالمنا من كلمات وآهات، عدا مرجعيات وولاءات الوطن ..

[email protected]

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى