كتاب السفير

مول “الشكـارة” ..

isjc

* بقلم : عزيز لعويسي

“الشكارة” في وعينا الاجتماعي وخاصة التلاميذي، تتجاوز حدود “المحفظة” التي رافقتنا كالطيف لسنوات طوال، أيـام الزمن الجميل، حيث كانت للمدرسة معنى وللتعلم مغزى، ويتخطى مفهومها، تلك “الأداة” التي أتعبت أيادينا الوديعة، وأثقلت ظهورنا، سنوات البؤس والحرمان، في واقع بئيس، لم تكن فيه “هواتف ذكية” ولا مواقع تواصل اجتماعي تعكر صفو حياتنا، ماعدا أجهزة تلفاز بالأبيض والأسود، كانت تحرك ناعورة خيالنا المحنط، وتزحزح قارات أحلامنا الصغيرة، برسوم متحركة، ننتظرها بأشواق بريئة كل مساء، لنرصع عبرها “قلادة” ما كان يسكن في عوالمنا البريئة، من نبل ورقي وجمال …

“شكارة” .. كانت أكبر من أداة نسخرها في نقل ما نتحوز به من كراسات ودفاتر وأقلام ومداد، وأكبر من رفيق درب، يرافقنا كل يوم، من بيوتاتنا المتواضعة إلى “مدارسنا الحلوة” التي كانت تحتضننا ونحن صغارا، بلهفة واشتياق، ونحتضنها كأم ثانية، تقينا قساوة البؤس وحرارة التواضع، لنتطلع عبرها ببراءة، إلى ما يسكن في أحاسيسنا المرهفة، من أحلام يافعة في واقع اجتماعي تزخرفه عناكب التواضع والبساطة والرتابة …

بالأمس القريب، حملنا “الشكارة” رغم ضعفنا وبؤسنا، رافقتنا بدون كلل أو ملل في الحجرات الدراسية، وسجلت بمداد الكبرياء ما شاب خطواتنا الدراسية، من لحظات “القسوة” و”الهلع” و”العنف”، وما اعترى مسيرتنا، من مشاهد “التميز” و”الفخر” و”الاعتزاز” و”الأحلام”، في فضاءات دراسية، كان فيها “المعلم” شامخا شموخ أحلامنا الصغيرة…

واليوم، تغيرت الأحوال، واستسلمنا عنوة لجبروت التحول وسنن التغيير، وبات أمسنا القريب، أشبه بقصيدة رثاء، استهلت أبياتها الفسيحة، بمقدمة تطلق العنان للبكاء على أطلال الزمن الجميل، تغيرت المدرسة التي ذاب جليد كبريائها، تحت حر العبث والارتباك والاحتقان، وساء حال “المعلم” الذي أضحى قصيدة بدون عنوان، أما “الشكارة” بكبريائها وبهائها، فلم تعد إلا حلقة ترصع قلادة الزمن الجميل، ودربا من دروب “النوستالجيا” التي نرتمي في حضنها بحسرة، كلما أسكرتنا خمرة “التفاهة” وأربكتنا “سكرة” التيهان” ..

في واقع التقهقر وزمن التراجعات، أفرغنا “الشكارة” من محتوياتها، وجردناها من رمزيتها ورقيها، فتلاشى أمام أعيننا، كل ما كان يميزنا عن غيرنا، من ممارسات “النبل” و”الرقي” و”الجمال”، وانغمسنا فرادى وجماعات، في “تفاهة” تبدو كالجراد الكاسح الذي يأتي على الأخضر واليابس، “فقدنا البوصلة في زمن “إكشواني”، صار حالنا فيه كحال “الدجاج الكروازي”، لا هو “رومي” ولا هو “بلدي”، لا نجد حرجا في إهانة بعضنا البعض، والاختفاء وراء شاشات الحواسيب، للرشق والقدف والتشهير والنقد الهدام، والخوض في تفاصيل الحياة الخاصة بدون قيد، وهدر الزمن واستنزاف القدرات، في التلصص على الناس وترقب الهفوات والزلات، والتلدد بنشرها على الغسيل الافتراضي”، في بيئة مرتبكة، أفرزت “مول الشكارة”،الذي شكل ويشكل مرآة عاكسة لما وصلنا إليه من تراجعات قيمية مثيرة للقلق ..

مع “مول الشكارة” أو “مول الحبة” أو “مول الكرمومة”، حضرت “سلطة المال” وغابت “سلطة القيم”، حضرت مفردات “العبث” و”التهور” و”الفساد”، وغابت مفاهيم “التميز” و”الإبداع” و”الرقي” و”الجمال”، وأصبحت قوة “التأثير” لمن يحمل “الشكارة”، التي سارت طريقا للترقي الاقتصادي والاجتماعي، وسلاحا لابديل عنه، لاختراق عوالم السياسة وتعبيد سبل ومدارج الارتقاء السياسي، والظفر بما تجود به السياسة من ريع ومكاسب وكراسي، في زمن “تافه”، أصبحت فيه “الكفاءة” مقرونة بقوة وثقل “الشكارة”..

ولا نبالغ في القول، أن “الشكارة” اخترقت جسد “السياسة” و”السياسة” أضحت حضنا دافئا للشكارة، فتشكلت العروة الوثقى بين “المال” و”السياسة”، معلنة عن “زواج” بقوة الواقع، أفرغ السياسة من معناها والانتخابات من “مغزاها” و”الديمقراطية” من “رقيها”، بشكل أضعف الأحزاب السياسية وعمق الهوة بينها وبين المجتمع، وكرس لقيم جديدة، مبنية على مفردات “الأنانية المفرطة” و”المصلحة الخاصة” و”الفساد” بكل تجلياته ..

وفي واقع هكذا، من الطبيعي أن تتراجع الكفاءات والخبرات، ويبتعد رجالات الفكر والثقافة والإبداع، ويخفت بريق النزهاء الذين يحملون هم الوطن، ليحضر “صحاب الشكارة”، الذين اختزلوا (مع وجود الاستثناء) الوطن، في النهب والسلب والحلب، ولخصوا تفاصيل المواطنة، في “التهافت” على المصالح والمكاسب، في ظل غياب الضابط القيمي وحضور مفردات التطاول على سلطة القانون، والإفلات من العقاب وعدم ربط المسؤولية بالمحاسبة ..

و “مول الشكارة” في شموليته، ليس فقط، هو من امتلك “الثروة” لسبب من الأسباب، أو من بنى صرح الثروة بطرق مشروعة أو غير مشروعة، هو مفهوم، يختزل ما أضحى يعتري ممارساتنا من مشاهد “الارتباك” و”العبث” و”العناد” و”الوصولية” و”انعدام المسؤولية”، ومن مظاهر “الأنانية المفرطة” و”التفاهة” و”السخافة” و”الانحطاط” في جميع المستويات، والجنوح الأعمى نحو “المصالح الضيقة” على حساب “المصلحة العامة” و”قضايا الوطن” و “انتظارات المواطنين” ..

واليوم، وفي أفق بلورة “النموذج التنموي المرتقب” الذي نعول عليه جميعا، لتصحيح مسارات التنمية، ووضع حد للفوارق الاجتماعية والتفاوتات المجالية الصارخة، وجعل المواطن المغربي في صلب قضايا التنمية، لامناص من تخليص “السياسة” من “مول الشكارة”، بشكل يؤسس لأحزاب سياسية جديدة، لا تؤمن إلا بمنطق الكفاءات والخبرات بعيدا عن تأثيرات “الشكارة”، ويعيد ثقة المواطنين في السياسة والديمقراطية والانتخابات، والكرة الآن، في مرمى “الأحزاب السياسية”، التي يفترض أن ترتقي بمستوى ممارساتها، بالاحتكام لأدوات “الديمقراطية” وآليات “الحكامة الرشيدة”، والانفتاح على رجالات الفكر والثقافة، الذين همشتهم “الشكارة” لسنوات عجاف، لم تفرز إلا “العبث” وأخواته، من منطلق أن “المرحلة”، تقتضي أحزابا سياسية “مسؤولة”، بدونها لا يستقيم “إصلاح” ولا تتحقق “تنمية”..

أما “مول الشكارة”، فلا خيار له اليوم، إلا تقدير خصوصيات المرحلة، وما يعتريها من مشاعر “اليأس” و”الإحباط” و”انسداد الأفق”، بالتحلي بروح المواطنة، وما تقتضيه من “مسؤولية” و”تضحية” و”استحضار للصالح العام”، وتسخير “الشكارة” في إتيان تصرفات وممارسات مسؤولة، من شأنها خدمة الوطن بنزاهة ونكران للذات، ومن مسؤولياتنا جميعا، أن نقطع بشكل لا رجعة فيه، مع ما يعشش في ذواتنا من مفردات “العناد” و”الخلاف” و”الصدام” و”العبث” و”الأنانية المفرطة”، وما أصبحنا نمارسه في حق الوطن، من “تفاهة” و”انحطاط” و”سخافة”، فلا يمكن كسب رهانات “الإقلاع التنموي الشامل”، إلا إذا أسسنا “رافعة قيمية”، تقوي أحاسيس الإنتماء لوطن نتقاسم فيه “عبق التاريخ” و”أريج الجغرافيا”.. “وطن” يفرض علينا “الارتقــاء” بالتصرفات والممارسات والخطابات والنقاشات، بعيدا عن مفردات “العبث” و”اللغط” و”الجدل” و”النعرات”..

وفي جميع الحالات، فمادامت “الشكارة” أضحت مرادفة لسلطة “المال”، فلا مناص من وضعها تحت المجهر بشكل مستدام، والحرص على إخضاعها لآليات “المسؤولية” و”الشفافية” و”المحاسبة”، من منطلق أن “المغرب الممكن”، لا يمكن رفع قواعده، إلا بسواعد “نزيهـــة” تحركها “قلوب” مفعمة بحب الوطن … ونختم بالقول، لسنا ضد “مول الشكارة” ولا نسعى لتجريده منها، ولكن، ضد كل من يسخر “الشكارة” للعبث بجسد الوطن بدون خجل أو حياء، وكل من يشهر أسلحة “التفاهة” في وجه الوطن، ويحرمه من فرص النهوض والارتقاء…

[email protected]

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى