في الواجهةكتاب السفير

الأرشيف و حقوق الإنسان

isjc
* ذ. عزيز لعويسي

 لم يكن حدث إصدار القانون رقم 69.99 المتعلق بالأرشيف (30 نونبر 2007)(1) حدثا تشريعيا فحسب، انضاف إلى الدينامية التشريعية المتعددة الزوايا، التي بدت معالمها الأولى مع بداية العهد الجديد، بل شكل حدثا محوريا، فاصلا بين زمنين متضاربين، “زمن أول” امتد من الاستقلال (1956) إلى سنة 1999، طبعته الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، في ظل فراغ أرشيفي (قانوني ومؤسساتي) حضرت فيه مفردات “التهور” و”العبث” و”الشطط” و”العنف” و”التضييق” و”الانتهاك المستدام” للحقوق والحريات، وغابت عنه قسرا، مفاهيم “الشفافية” و”المكاشفة” و”المساءلة” و”المحاسبة”، و”زمن ثان” نوثق له ببداية “العهد الجديد”، حيث أخذ جليد “المفهوم القديم للسلطة” في الذوبان التدريجي، فاتحا المجال لبداية تشكل “مفهوم جديد للسلطة” (2)، بالقدر ما لم يجد حرجا في النبش في حفريات الماضي، لاسترجاع الثقة المفقودة وبناء صرح الحقيقة والإنصاف والمصالحة، بالقدر ما أطلق العنان، لإحداث دينامية إصلاحية متعددة الجوانب، تنموية وتشريعية ومؤسساتية وحقوقية وقضائية وتربوية وغيرها، أثمرت سنة 2007، ميلاد أول “قانون منظم للأٍشيف” في تاريخ التشريع الوطني، شكل ليس فقط، شهادة اعتراف من الدولة،  بأهمية “الأرشيف العامة”(3) كقيمة تاريخية وثقافية وهوياتية وتراثية، بل وكأرضية تشريعية صلبة، يمكن التعويل عليها، لكسب رهانات الحداثة وما يرتبط بها من حقوق وقيم كونية مشتركة، وهي مناسبة، سنحاول من خلالها، رصد طبيعة العلاقة القائمة بين “الأرشيف” و “حقوق الإنسان”. 

في هذا الصدد، قد يبدو للبعض منذ الوهلة الأولى، صعوبة مد جسور تواصلية بين “الأرشيف العامة”، التي عادت ما ينتهي بها المطاف بالإتلاف (إذا كانت عديمة الجدوى والأهمية) أو الركن في رفوف الأقبية المهجورة، و “حقوق الإنسان” التي تحيل على الحريات والحقوق الإنسانية المشتركة، وقد يبدو للبعض الآخر، أن محاولة إيجاد أرضية مشتركة بين “وثائق جامدة” – تجنح نحو الماضي والتاريخ والهوية والتراث – و”قيم مشتركة” – تكتسي طابع الديمومة والاستمرارية، تلامس الحداثة وترتبط بالحاضر والمستقبل -، لن تكون إلا محاولة حماسية وانطباعية فاقدة للبوصلة والنظرة الثاقبة.

من يؤكد أن “الأرشيف” في شموليتها، مجرد وثائق إدارية فاقدة للصلاحية والحياة، لا تصلح إلا للركن في الرزم وفي الأقبية والرفوف، فنحن نؤكد هذا الطرح من ناحية “الشكل”، لكن من ناحية “الجوهر”، نؤكد أن “الأرشيف العامة” بالخصوص، بالقدر ما ترتبط بالماضي وتلامس قضايا الهوية والثقافة والتراث، بالقدر ما تعكس واقع الحال (الحاضر)، باعتبارها مرآة عاكسة للممارسة السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية وغيرها، بشكل يتيح بنكا لمعطيات متعددة الروافد والزوايا، تسمح بوضع “تحت المجهر”، مختلف السياسات العمومية وما يرتبط بها من خطط وبرامج واستراتيجيات وتوجهات، بما يضمن التشخيص والتقويم والمساءلة والمحاسبة، ورسم معالم المستقبل بفاعلية ونجاعة وبرؤى متبصرة، وفي هذا المستوى، ترتبط “الأرشيف العامة ” بصناعة المستقبل.

أما “حقوق الإنسان”، فهي لصيقة بالإنسان، وترتبط ارتباطا وثيقا، بمختلف الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية وغيرها، وتلامس قيم الحداثة، وما تقتضيه من عدالة ومساواة ومناصفة وسيادة القانون والمسؤولية والمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، ومحاربة الفساد والحق في المعلومة وغيرها، وفي هذا المستوى من النقاش، قد يتساءل البعض، عن طبيعة الخيوط الناظمة الرابطة بين هذه “الحقوق” و”الأرشيف”، وهو سؤال مشروع، يفرض استعجال “الجواب”، والجواب، يقتضي استعراض المعطيات التاليـة :

– أن الأرصدة الأرشيفية، كما تمت الإشارة إلى ذلك سلفا، هي مرآة عاكسة للسياسات العمومية، وما قد يرتبط بها من ممارسات إدارية متعددة المستويات، وهي بذلك، تشكل “وسائل إثبات”، تسمح بمساءلة صاحب القرار السياسي أو الإداري من حيث “النجاحات” و”الإخفاقات” على حد سواء، في إطار “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، وهو “مبدأ دستوري”، يقتضي الاحتكام إلى “سلطة” الوثيقة الأرشيفية” لإثبات حالة أو نفيها.

– في كثير من الحالات، قد يدخل “المواطن” و”الإدارة” في حالة نزاع، دفاعا عن حق من الحقوق، وهذا يقتضي تواجد أرصدة أرشيفية منظمة بشكل جيد، يمكن لأي طرف يرى نفسه متضررا “مواطنا” كان أو “إدارة”، أن يستعملها كوسائل إثبات، وبمفهوم المخالفة، في غياب “الأرشيف”، يصعب الدفاع عن الحقوق والمكتسبات، كما أن القضاء، قد يعجز عن إثبات حقائق أو الحكم بإرجاع الحقوق إلى من له الحق فيها، إذا لم يضع بين يديه “الوثائق” أو “المستندات” الضرورية، وفي هذا المستوى، يرتبط “الأرشيف” ارتباطا وثيقا بحقوق الإنسان.

– “الأرشيف العامة”، تتيح الإمكانية أمام “المواطن” لمواكبة وتتبع السياسات العمومية، عبر آلية “الحق في المعلومة”، وفي هذا الصدد، نؤكد أن الفاعل السياسي أو الإداري، لما يستشعر أن ما سيصدر عنه من قرارات، سيكون موثقا عبر “الأرشيف”، ففي هذه الحالة، سيحرص لامحالة، على الانضباط والتقيد بالقانون والبعد عن الارتجال والعبثية والعشوائية، تفاديا للمساءلة والمحاسبة، واحترازا من “الرقابة البعدية” رسمية كانت أو شعبية من طرف العموم، وبالتالي، فيمكن أن تشكل “الأرشيف العامة”، قوة دافعة للمسؤولين، لاحترام القانون وحفظ الحقوق، وكبح ما قد يصدر عنهم، من انزلاقات وانحرافات خفية أو معلنة.

– “الأرشيف العامة”، قد تتيح أمام الدولة “وسائل إثبات”  تسمح بالدفاع عن حقوقها، وفي هذا الإطار، نشير إلى ما حدث في سبعينيات القرن الماضي، لما قررت الدولة وضع “ملف الصحراء” أمام أنظار محكمة العدل الدولية بلاهاي، وما وقع في مطلع التسعينيات، وتحديدا في سياق ما باشرته “هيئة الإنصاف والمصالحة”، من أبحاث وتحريات، في محاولة للكشف عن حقيقة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسـان خلال الفترة الممتدة من 1956 إلى 1999، وهي مهمة لم تكن ميسرة، لم تخل من صعوبات وإكراهات موضوعية، ارتبطت بالأساس إما بغياب الأرشيف العامة أو بسوء تنظيمها، ومن خلال المناسبتين، بدأ يتشكل نوع من “الوعي الرسمي” بقيمة “الأرصدة الأرشيفية” و”أهميتها في الدفاع عن الحقوق والمطالب، وفي هذا الصدد، فإذا كانت المناسبة الأولى (قضية الصحراء) قد أثمرت ميلاد “مديرية الوثائق الملكية” سنة 1975، فإن المناسبة الثانيـة (عمل “هيئة الإنصاف والمصالحة”)، كانت وراء إصدار “تقرير ختامي” تضمن “توصيات” متعددة المستويات، من ضمنها “توصية” ارتبطت بالأرشيف وحفظ التاريخ والذاكرة.

وقبل الختم، نؤكد أن الوثائق الأرشيفية، يتم تكوينها وحفظها لأجل الصالح العام، لغايات ثلاث، أولها: إثبات حقوق الأشخاص الطبيعيين أو المعنويين الخاضعين للقانون العام أو الخاص، ثانيها: لأغراض البحث العلمي، وثالثها: صيانة التراث الوطني (4) ، واعتماد تشريع أرشيفي متكامل، ليس معناه، أننا كسبنا رهان “حقوق الإنسان” أو ربحنا “تحدي الحداثة”، لاعتبارين اثنين، أولهما: أن التجربة الأرشيفية المغربية لازالت في مرحلة التأسيس والبناء، إذ لا يتجاوز عمرها حوالي “تسع” سنوات، إذا ما أخدنا بعين الاعتبار تاريخ الانطلاقة الفعلية لمؤسسة أرشيف المغرب (أواخر ماي 2011)(5) ، ثانيهما: أن “الأرشيف العامة” هي قيمة إثباتية تسمح بالتثبت من مدى احترام حقوق الإنسان أو انتهاكها، وفي هذا الصدد، فإذا كانت “حماية حقوق الإنسان وصيانتها”، من ضمن الغايات التي تحكمت في تنزيل “نظام قانوني للأرشيف العمومي”، فإن هذا المسعى “الحقوقي” لن يتحقق، إلا بتشغيل آليات المسؤولية وتحريك عجلات المساءلة والمحاسبة، وتشديد الرقابة “القبلية” و”البعدية”(ربط المسؤولية بالمحاسبة) ومحاربة الفساد وتكريس ثقافة العدالة والمساواة وسيادة القانون و”عدم الإفلات من العقاب”، والحرص على إتاحة الأرصدة الأرشيفية أمام العموم في إطار “الحق في المعلومة” (تعزيز الرقابة الشعبية)، عدا هذا، فأي نقاش حول علاقة “الأرشيف” بشق “حقوق الإنسان”، لن يكون، إلا نقاشا حماسيا بين “مطرقة الواقع” و”سندان الخيال”، على أمل، أن تكون “الأرشيف العامة” قوة دافعة لبناء “ثقافة حقوقية متينة” حبلى بمفردات “الشفافية” و”المساءلة” و”المحاسبة”، وهو “ثالوث” يكفي لإعلان القران بدون تردد، بين “الأرشيف العامة” و”حقوق الإنسان”..

ونختم بتثمين المجهودات المتعددة المستويات، التي ما فتئت تبذلها “مؤسسة أرشيف المغرب” في سبيل تمتين الروابط والصلات بين “الأرشيف” و”حقوق الإنسان”، والتي حققت عدة مكاسب، على رأسها ” تسلم ” أرشيف “هيئة التحكيم المستقلة لتعويض ضحايا الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي” (24 يوليوز 2017)، في حفل نظمته المؤسسة و”المجلس الوطني لحقوق الإنسان”، بكلية الآداب  والعلوم الإنسانية بالرباط، توج بتوقيع اتفاقية تعاون بين “مؤسسة أرشيف المغرب” و”المجلس الوطني لحقوق الإنسان”، وتسلم “أرشيف هيئة الإنصاف والمصالحة” (9 دجنبر 2017)، في لقاء تاريخي، ميزه تنظيم ندوة علمية حول “الأرشيف وحقوق الإنسان” بمشاركة نخبة من الدارسين والباحثين والخبراء في التاريخ والأرشيف والعدالة الانتقالية وحقوق الانسان”(6)، ومجهودات من هذا القبيل، قادرة على جعل “الأرشيف” في صلب الاهتمام الرسمي والشعبي، كمرآة “عاكسة” لمشتركنا التاريخي والتراثي والثقافي والهوياتي، وممارسة “معبرة” عن طموحنا الحقوقي والحداثي والتنموي..

[email protected]

هوامش:

  • الجريدة الرسمية عدد: 5586 بتاريخ 02 ذو الحجة 1428 (13 دجنبر 2007).
  • منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش، انطلقت عدة إشارات الواحدة تلوى الأخرى، إيذانا ببزوغ فجر جديد يؤرخ ليوم جديد ولمرحلة جديدة، تقوم على مأسسة الحياة العامة للبلاد .. للمزيد من الإيضاح، ينظر في هذا الصدد: عبدالعزيز أشرقي، العامل والمفهوم الجديد للسلطة، مطبعة النجاح بالدارالبيضاء، الطبعة الأولى، 2003، ص ص 175-186.
  • حددت المادة 3 من قانون الأرشيف، الأرشيف العامة في “جميع الوثائق التي تكونها في إطار مزاولة مهامها: الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات والمنشآت العامة-الهيئات الخاصة المكلفة بإدارة مرفق من المرافق العامة في ما يتعلق بالأرشيف الناتجة عن نشاط هذا المرفق”.
  • ينظر المادة الأولى (القسم الأول) من القانون المتعلق بالأرشيف.
  • مؤسسة عمومية أحدثت بموجب المادة 26 من قانون الأرشيف، تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي، عين على رأسها الأستاذ الجامعي والباحث في التاريخ “جامع بيضا”، و أعطيت انطلاقتها الرسمية أواخر ماي 2011، وقد صنفت سنة 2012، ضمن قائمة المؤسسات العمومية ذات الطابع “الاستراتيجي”.
  • ينظر في هذا الصدد، مقالنا بعنوان “مؤسسة أرشيف المغرب من “عسر الولادة” إلى “الإشعاع”، والذي نشر في عدد من المواقع والجرائد الإلكترونية شهر فبراير 2020.

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى