كتاب السفير

“أرشيف المغرب” و رهان “التربية على المواطنة”

isjc

* بقلم : عزيز لعويسي

الحديث عن العلاقة ىبين “الأرشيف” و “التعليم” يمكن تناولها من أربعة جوانب، أولها: ما تتيحه الأرصدة الأرشيفية من معطيات وأرقام وإحصائيات، من شأنها أن تسمح بمساءلة السياسات العمومية في مجال التربية والتكوين، وتقييم التجارب الإصلاحية المتعاقبة، وما اعتراها من مظاهر القصور والمحدودية، بشكل يسمح بتنزيل استراتيجيات إصلاحية رصينة وناجعة، بعيدة عن مفردات الارتباك والتردد والعشوائية، ثانيها: يرتبط بواقع “الممارسة الأرشيفية” بمنظومة التربية والتكوين بكل مستوياتها، بدءا بالمؤسسات التعليمية، مرورا بالمديريات الإقليمية والأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، وانتهاء بالوزارة الوصية على القطاع، ثالثها: يرتبط بالبحث العلمي، من منطلق أن الأرصدة الأرشيفية المدرسية بمختلف مستوياتها، تشكل مادة دسمة، يمكن استثمار معطياتها، خدمة لأغراض البحث العلمي التربوي في شقه المدرسي، ورابعها: يلامس الأدوار التربوية التي يمكن أن تضطلع بها المؤسسة الحاضنة للأرشيف المغربي (مؤسسة أرشيف المغرب) في ترسيخ قيم المواطنة الحقة، والارتقاء بالسلوك المدني داخل المؤسسات التعليمية، وكلها علاقات متعددة الأبعاد، تقتضي مد جسور تواصلية بين “مؤسسة أرشيف المغرب” و”المدرسة العمومية”، بشكل يجعل من المؤسسة الأرشيفية، خادمة للمدرسة العمومية ومتفاعلة مع قضاياها و انتظاراتها.

ما دفعنا إلى المجازفة بفتح جسور تواصلية بين “أرشيف المغرب” و”التعليم العمومي”، هو ما باتت تشهده الكثير من الفضاءات المدرسية من مشاهد التهور والعبث والتراخي، وانعدام المسؤولية بين أوساط “عينات” من المتعلمات والمتعلمين، إذ، يظهر واقع الممارسة، حضورا مقلقا، لعدد من التصرفات والسلوكات اللامدنية خاصة بالتعليم الثانوي بسلكيه الإعدادي و التأهيلي، تتفاوت مستوياتها ودرجاتها، بدءا بارتداء الملابس الممزقة والقبعات (كاسكيط) والحلاقات المثيرة للانتباه، مرورا باستعمال الهواتف النقالة والتغيبات والتأخرات واللامبالاة والعبث بالتجهيزات، وانتهاء باستفحال الغش المدرسي الذي يرتفع منسوبه خاصة في الامتحانات الإشهادية، والعنف المدرسي الذي بلغ مداه خلال السنوات الأخيرة، وكلها مشاهد وغيرها، لا تعكس فقط، انتهاكا مستداما للقوانين الأساسية الداخلية، التي تبقى عاجزة في مجملها على فرض معادلة النظام والانضباط، بل وتعبر عن واقع حال، فضاء مدرسي يذوب فيه جليد المواطنة، وما يرتبط بها من قيم متعددة المستويات، واقع مؤسف ومقلق في نفس الآن، يسائل منظومة تربوية بمناهجها وبرامجها وفضاءاتها وبنيات استقبالها…، ويسائل باقي مؤسسات التنشئة الاجتماعية، التي تراجعت أدوارها التربوية والتأطيرية (أسرة، مجتمع مدني، أحزاب سياسية، دور الشباب والثقافة والرياضة، إعلام …)، كما يسائل العديد من الهيئات والمؤسسات العمومية، ومنها “مؤسسة أرشيف المغرب”.

قد يقول قائل، أن “المدرسة العمومية” مطالبة بالارتقاء بمستوى المناهج والبرامج وطرائق التدريس وتجويد بنيات الاستقبال وإعادة الاعتبار للموارد البشرية والقطع مع “الكم” المكرس للرتابة والتواضع، وإعطاء نفس جديد للحياة المدرسية، بشكل يطلق العنان للقدرات والمهارات والكفايات الحياتية للمتعلم(ة)، وهو طرح، لا يمكن إلا تبنيه وتزكيته، لكن في نفس الآن، نؤكد أن مسؤولية تراجع منسوب المواطنة والقيم، لا يمكن تحميلها جملة وتفصيلا للمدرسة، بل هي مسؤولية مشتركة، تتقاسمها مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية، التي لابد وأن تتحمل مسؤولياتها “المواطنة”، في الانفتاح على الفضاءات التربوية ومد جسور التواصل معها، بما يضمن الإسهام الفعال في إرساء منظومة التربية على القيم داخل الفضاءات التربوية، والانخراط الناجع في ما يشهده الشأن التعليمي من دينامية إصلاحية متعددة الزوايا.

قد نختلف في تشخيص الأزمة التي تتداخل فيها “عوامل داخلية” لصيقة بالمدرسة (تسائل طبيعة المناهج ونوعية البرامج والطرائق المعتمدة، وبنيات الاستقبال والحياة المدرسية …) وعوامل أخرى “خارج النسق المدرسي”، ولا تتحمل فيها المدرسة العمومية أية مسؤولية (تسائل مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية بكل مستوياتها ودرجاتها)، وقد نختلف أيضا في أولويات الحلول التي من شأنها المعالجة، وإعادة الاعتبار للمدرسة العمومية، كفضاء لبناء صرح المواطنة وتمتين لحمة القيم والأخلاق، لكن لابد لنا أن نقر، أن تجاوز الأزمة، يقتضي المرور من ثلاثة مسالك مترابطة ومتفاعلة : 

– المسلك الأول : يقتضي استعجال إحداث “ثورة ناعمة” داخل الفضاءات المدرسية، بشكل يجعل منها فضاءات “جذابة” مفعمة بالحياة.

– المسلك الثاني : يفرض الانخراط الإيجابي والفعال، لجميع “مؤسسات التنشئة الاجتماعية” (أسرة، مجتمع مدني، دور الشباب والرياضة والثقافة، أحزاب سياسية، إعلام …) في الشأن التربوي، في إطار “مسؤولياتها المواطنة” في تربية وتأطير الناشئة.

– المسلك الثالث : يرتبط بالأدوار التربوية التي يمكن أن تضطلع بها بعض الهيئات والمؤسسات العمومية، خاصة تلك التي تضطلع بمهام ومسؤوليات مرتبطة بالدين والأخلاق والمواطنة والتاريخ والهوية والذاكرة والتراث، من قبيل “المجالس العلمية، “المندوبية السامية للمقاومة وأعضاء جيش التحرير”، و “مؤسسىة أرشيف المغرب”…إلخ.

ويصعب النبش في حفريات المسالك المذكورة التي تحتاج لأكثر من مقال، لكن، سنركز على “مؤسسة أرشيف المغرب” كمؤسسة عمومية “استراتيجية”، أناط بها المشرع الأرشيفي، مهاما متعددة المستويات، يمكن إبراز معالمها الكبرى في “النهوض ببرنامج تدبير الأرشيف العادية والأرشيف الوسيطة التي بحوزة الأشخاص الطبيعيين والمعنويين، وتنسيقها وإعطاء التعليمات في هذا المجال”، “صيانة تراث الأرشيف الوطني والعمل على النهوض به”، “وضع معايير لعمليات جمع الأرشيف وفرزها وإتلافها وتصنيفها ووصفها وحفظها الوقائي، وترميمها ونقلها في حوامل مخصصة للأرشيف” و”النهوض بجمال الأرشيف عن طريق البحث العلمي والتكوين المهني والتعاون الدولي”(المادة27)، وهي مهام محورية، ترتبط بها تدخلات متعددة المستويات، تطلق العنان للمؤسسة، للانخراط في الشأن الثقافي الوطني عبر أنشطة تؤسس لمفهوم جديد للأرشيف، كقيمة علمية وتاريخية وتراثية وهوياتية وحقوقية وحداثية، يمكن التعويل عليها، ليس فقط،  للتعبير عن مشتركنا التاريخي والتراثي والهوياتي، ولكن أيضا، للإسهام في بناء صرح التربية على المواطنة وإرساء منظومة سليمة للقيم.

مؤسسة أرشيف المغرب، وموازة مع أدوارها “التقنية” ذات الصلة بحفظ الأرشيف العامة، تضطلع بأدوار وتدخلات موازية، ترمي في شموليتها إلى تثمين “الأرشيف العمومي”، واستثماره في تعزيز لبنات الموروث التاريخي والثقافي والتراثي والهوياتي، بشكل يقوي مشاعر الوطنية وأحاسيس الانتماء للوطن، وهي أدوار وتدخلات تتنوع بين تنظيم العروض والندوات العلمية وعقد الشراكات واتفاقيات التعاون مع عدد من الهيئات والمؤسسات (جامعات، كليات، معاهد ومدارس عليا …)، وفي هذا الإطار، يصعب رصد مختلف الأنشطة العلمية والثقافية التي نظمتها المؤسسة بمبادرة فردية منها أو بتعاون مع شركائها، منذ تأسيسها سنة 2011، لكن يمكن الإشارة إلى بعضها على سبيل المثال لا الحصر، وذلك على النحو التالي :  

– تنظيم المؤسسة (بشراكة مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية – أكدال الرباط، وبتنسيق مع الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة والمركز السينمائي المغربي)، مائدة مستديرة حول موضوع : “الإعلان العالمي للأرشيف”(10 يونيو 2013)، بمناسبة اليوم العالمي للأرشيف، وقد تخلل الحدث، افتتاح معرض “الرباط عاصمة المغرب/ الرباط تراث عالمي” برواق أرشيف المغرب.(مجلة أرشيف المغرب، العدد1، السنة2016، ص20).

  •  تنظيم المؤسسة (بشراكة مع كل من وزارة الثقافة والاتصال ومركز الأرشيف الدبلوماسي الفرنسي والمركز السينمائي المغربي)، معرضا للصور والوثائق تحت عنوان : “طريق الوحدة (1957) .. طريق المواطنة”، وذلك يوم 30 نونبر 2017 برواق أرشيف المغرب، ونشاط من هذا القبيل، من شأنه ليس فقط، تسليط الضوء على مشروع طريق الوحدة، إحياء لروح وقيم هذا المشروع الوطني الرائد، وتكريما لتضحيات الشباب المتطوع الذي لبنى نداء المغفور له الملك محمد الخامس في يوم 15 يونيو 1957، ولكن أيضا، تقريب الأجيال الناشئة -التي لم تعايش هذه اللحظة التاريخية المجيدة- من أجواء الحماسة والتعبئة الشاملة التي رافقت هذا الورش الوطني، وكذا استحضار رمزية ودلالاته العميقة المتمثلة في تكريس روح المواطنة الحقة لدى الشباب.(مجلة أرشيف المغرب، العدد2، السنة 2017، ص9).

– تنظيم ندوة (بتعاون مع الجمعية المغربية للبحث التاريخي ومعهد الدراسات الإفريقية)، بمناسبة الاحتفال باليوم الوطني للأرشيف والذكرى المائوية للحرب العظمى (1914-2014) حول موضوع : “الحرب العظمى (1914-1918) : مصادر وأرشيف”،  وهي مناسبة، تم من خلالها افتتاح معرض للوثائق بعنوان : “الحرب العظمى (1914-1918) : أرشيفات محجوزة “، والذي احتوى على معطيات تاريخية جديدة حول الوجود الألماني يكشف عنها النقاب لأول مرة. (مجلة أرشيف المغرب، العدد 1، السنة 2016، ص22). 

– تنظيم معرض للصور والوثائق وبعض التحف، احتفاء باليوم العالمي للأرشيف (9 يونيو 2018)، تحت عنوان : بورقراق .. بين الأمس واليوم”، (بشراكة مع كل  من “وكالة تهيئة ضفتي أبي رقراق”، “جمعية رباط الفتح للتنمية المستدامة”، “جمعية أبي رقراق” و”متاحف بلغازي”)، وقد سعت الجهات المنظمة للمعرض – الذي ظل مفتوحا إلى غاية منتصف نونبر 2018- إلى توجيه البوصلة نحو فضاء أبي رقراق، وفاء لذاكرة الرباط – سلا، وتثمينا للموروث الثقافي والحضاري لضفتي مصب أبي رقراق، الزاخرتين بصروح تاريخية ومعمارية، تشكل مرآة عاكسة لتاريخ عريق، وكدا لتقريب العموم من مشاريع التهيئة وتحديث البنية التحتية، ومن الحركية الاقتصادية والثقافية لضفتي أبي رقراق. (مجلة أرشيف المغرب، العدد3، السنة 2018، ص10)

أنشطة علمية وثقافية من هذا القبيل، لا يمكن إلا تثمينها، لإسهامها في التعبير عن مشتركنا التاريخي والثقافي والتراثي والهوياتي، وفي هذا الصدد، فسواء تعلق الأمر بمعرض “الرباط تراث عالمي”، أو معرض “طريق الوحدة .. طريق المواطنة” أو معرض “أبو رقراق بين الأمس واليوم”، كلها معارض وغيرها، وإن اختلفت مواضيعها أو أزمنتها أو أمكنتها، فهي تتقاطع في مجملها، في إبراز ما يجمعنا من تاريخ مشترك زاخر بالوطنية الحقة، وما يرتبط بها من قيم التضحية والوفاء والتطوع والتفاني والمسؤولية ونكران الذات خدمة للوطن وقضاياه، والعودة إلى التاريخ – عبر الصورة -، من شأنه إبرازخصوصيات هويتنا المشتركة في أبعادها التراثية والثقافية والدينية والفكرية والفنية والمعمارية، بشكل يجعل من “الأرشيف العمومي” مرآة عاكسة، للرأسمال اللامادي المشترك، الذي لا مناص من استثماره بشكل رصين، لترميم ما بات يعتري منظومة القيم، من ثغرات وأعطاب متعددة الزوايا، خاصة في أوساط الأجيال الصاعدة، لكن وبالقدر ما ننوه بالأنشطة العلمية والثقافية التي تنخرط فيها “مؤسسة أرشيف المغرب” منذ تأسيسها، بالقدر ما نؤكد أن هذه الأنشطة، قد لا تحقق ما يرسم لها من أهداف ومقاصد تربوية وتعليمية بالأساس، وفي هذا الإطار، نبدي الملاحظات التالية :  

– أن الأنشطة العلمية والثقافية التي تنظمها “أرشيف المغرب” وخاصة “معارض الصور”، غالبا ما يكون “رواق المؤسسة” مسرحا لها، بشكل قد يجعل من زيارتها والاطلاع على محتواها، أمرا غير ميسر خاصة بالنسبة للقاطنين خارج الرباط، من الطلبة والتلاميذ.

– على امتداد السنة، وموازاة مع زيارات الهيئات والبعثات الدبلوماسية الأجنبية، تشهد  المؤسسة، زيارات تقوم بها أفواج من مختلف المؤسسات التعليمية (عمومية وخصوصية)، ترمي إلى التعريف بالمؤسسة وبمهامها وهياكلها (المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، مدرسة علماء الإعلام، الجامعة الدولية للرباط، جامعة الحسن الثاني – عين الشق ،(الدار البيضاء)، كلية الآداب والعلوم الإنسانية (المحمدية، فاس سايس)، المعهد الملكي لتكوين أطر الشبيبة والرياضة، الهيئة العليا للسمعي البصري، مدرسة تكوين أطر القوات المساعدة بمدينة بنسليمان ..

– معظم الزيارات الوافدة على المؤسسة، تكون مؤطرة ومنظمة، من طرف مؤسسات جامعية (جامعات، كليات) ومعاهد ومدارس عليا، تتموقع إما بالعاصمة الرباط أو على مقربة منها (الدار البيضاء، المحمدية، بنسليمان)، وبالتالي فعامل ”البعد الجغرافي”(الرباط)، قد يشكل عائقا أمام عدد من الهيئات والمؤسسات التي تتواجد بعيدا عن العاصمة (طنجة، تطوان، مكناس، مراكش، الصويرة، آسفي، العيون …)، يحول دون تمكنها من ربط جسور التواصل المباشر مع المؤسسة الأرشيفية، وتتبع عن قرب، ما تقوم به من أنشطة علمية وثقافية (معارض، ندوات …).

– بتأمل الزيارات التي تشهدها “أرشيف المغرب”، يلاحظ غياب “شبه تام” للمؤسسات التعليمية (التعليم المدرسي العمومي)، مما يجعل شرائح واسعة من التلاميذ (الناشئة) خارج ما تقوم به هذه المؤسسة العمومية من أنشطة، لها ارتباط مباشر بقضايا التراث والتاريخ والتربية على المواطنة، وهذا المعطى، قد يعمق الهوة بين “أرشيف المغرب” و شرائح واسعة من الناشئة (رجال الغد)، بشكل قد يحول دون كسب “ثقافة الأرشيف”.

– ما تقوم به “مؤسسة أرشيف المغرب” من أنشطة، بعضها يعني التلاميذ خاصة بالتعليم الثانوي،  بالنظر إلى ما يتلقونه في بعض المواد من دروس (مادة الاجتماعيات نموذجا)، كما هو الحال بالنسبة للندوة التي نظمت بمناسبة الاحتفال باليوم الوطني للأرشيف والذكرى المائوية للحرب العظمى (1914-2014) حول موضوع : “الحرب العظمى (1914-1918) : مصادر وأرشيف”، والتي تخللها افتتاح معرض للوثائق بعنوان : “الحرب العظمى (1914-1918) : أرشيفات محجوزة “،  وهو نشاط تاريخي بامتياز، يعني بشكل خاص تلاميذ السنة الثالثة إعدادي (درس الحرب العالمية الأولى)، والسنة الأولى بكالوريا علوم .. (درس : التنافس الإمبريالي واندلاع الحرب العالمية الأولى، درس : أوربا من نهاية الحرب العالمية الأولى إلى أزمة 1929)، والسنة الثانية بكالوريا آداب وعلوم إنسانية (درس : العالم غداة الحرب العالمية الأولى).

– أيضا ما تقدمه المؤسسة من أنشطة علمية وثقافية ومعارض صور، تفاعلا مع بعض الأعياد الوطنية من قبيل ذكرى “المسيرة الخضراء” و”عيد الاستقلال” وذكرى “11 يناير” و ذكرى “ثورة الملك والشعب”، هي أنشطة قيمة، يمكن استثمارها في تعزيز الارتباط بالتاريخ الوطني الحافل بالأمجاد والبطولات، بما يضمن تعزيز لحمة المواطنة الحقة وما تحمله من قيم المحبة والوفاء والنضال والتضحية ونكران الذات، وهي أعياد مجيدة ومناسبات خالدة، تحضر بقوة في برنامج الاجتماعيات بالتعليم الثانوي الإعدادي (المغرب: الكفاح من أجل الاستقلال وإتمام الوحدة الترابية، المراحل الكبرى لبناء الدولة المغربية الحديثة، ملف حول: المقاومة المغربية) والتأهيلي (نظام الحماية بالمغرب والاستغلال الاستعماري، نضال المغرب من أجل الاستقلال واستكمال الوحدة الترابية ..)، وهنا نؤكد أن محدودية التواصل بين “المؤسسة” و”الناشئة” من التلاميذ بالأساس، من شأنه أن يشوش على ما تضطلع به المؤسسة من أدوار تربوية وتعليمية.

وعليه، وبناء على ما سلف، لا يمكن الاختلاف حول ما حققته المؤسسة من مكاسب تشريعية ومؤسساتية منذ تأسيسها (2011)، وما قامت به من أنشطة تواصلية وإشعاعية تجاوز صداها حدود الوطن، تنوعت بين الندوات العلمية ومعارض الصور والشراكات واتفاقيات التعاون والحضور الإعلامي الوازن، لكن في نفس الآن، نسجل كأساتذة ممارسين وكباحثين تربويين، حضورا محتشما للمؤسسة “الفتية” في المشهد التربوي التعليمي (التعليم المدرسي أساسا)، الذي يحتاج على المستوى الراهن، إلى انخراط مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية في الشأن التربوي، بما فيها الهيئات والمؤسسات العمومية (المجالس العلمية، القضاء، الأمن، المندوبية السامية للمقاومة وأعضاء جيش التحرير، مؤسسة أرشيف المغرب …) – في ظل ما بات يعتري الكثير من الفضاءات المدرسية من مشاهد العبث والتهور والتراخي وتراجع منسوب المواطنة وتردي القيم وانعدام المسؤولية والعنف المدرسي- من أجل الإسهام الجماعي في “صناعة” مدرسة عمومية “صانعة للقيم” لا مكرسة لانحطاطها أو ضحية لأزمتها. 

بخصوص “مؤسسة أرشيف المغرب” موضوع المقال، لا يمكن في جميع الحالات، أن نحملها ما لا طاقة لها به، ويكفي الإشارة إلى أنها لا تتوفر إلا على “مقر مؤقت” بطاقم إداري يصعب الإفصاح عنه (51 مستخدم(ة) سنة 2019)، بعدما أنشئت سنة 2011 بدون “مقر” وبدون “طاقم إداري”، إلا من “مدير” (الأستاذ الجامعي والباحث في التاريخ “جامع بيضا”)، كان عليه أن يتحمل “عسر الولادة” والمضي قدما – بمعية ما تيسر له من حصيص – في اتجاه إرساء لبنات المؤسسة الناشئة لتضطلع بما رسمه لها المشرع الأرشيفي، من مهام واختصاصات متعددة المستويات، لكن يمكن التعويل عليها – إلى جانب مؤسسات عمومية أخرى – من أجل حضور ناجع في المشهد التعليمي، وهذه النجاعة تبقى عصية على الإدراك في الوقت الراهن في ظل ما تعرفه المؤسسة من صعوبات وإكراهات موضوعية، مرتبطة بالأساس بغياب مقر لائق يليق بها كمؤسسة عمومية، وثانيها الخصاص المهول في الموارد البشرية، قياسا لحجم المهام والاختصاصات، وفي هذا الصدد، لا مناص من الإدلاء بالمقترحات التالية : 

1.استعجال تمكين المؤسسة من مقر جديد، يليق بها كمؤسسة عمومية صنفت ضمن المؤسسات العمومية ذات الطابع “الاستراتيجي”، يستجيب للمواصفات الدولية ذات الصلة بحفظ الأرشيف، وفي نفس الآن،  يتيح أكثر من إمكانية لتوسيع نطاق الأنشطة العلمية والثقافية واستقبال الزوار (قاعات ندوات، قاعات مطالعة، رواق للعرض، مكاتب لائقة، مستودعات، مكاتب …).

2.استعجال المقر الجديد، يقتضي استعجال الرفع من الحصيص (الموارد البشرية) والارتقاء بالأوضاع المادية والمهنية للشغيلة الأرشيفية، وتجويد وسائل عملها، بشكل يسمح بالتحرك الفاعل في الميدان، للتثبت من مدى الالتزام بأحكام ومقتضيات القانون المنظم للأرشيف والقيام بالمعاينات الضرورية عند الاقتضاء.

3.التوفر على الموارد البشرية الكافية، من شأنه أن يساعد على بلورة “استراتيجية تواصلية”، تسمح بتعزيز الصلات المباشرة مع المؤسسات التعليمية، خاصة بمناسبة الأعياد والمناسبات الوطنية (المسيرة الخضراء، عيد الاستقلال، ذكرى 11 يناير، ثورة الملك والشعب..) التي تفرض التواصل مع التلاميذ عبر تنظيم “معارض الصور التاريخية” أو المحاضرات والعروض، التي تعرف بهذه المناسبات الوطنية، وما تحمله من قيم وطنية متعددة الزوايا.

4.الحضور في الفضاءات المدرسية، في ظل ما تمت الإشارة إليه من أعياد وذكريات، سيكون أيضا فرصة للتعريف بمؤسسة “أرشيف المغرب” وما تضطلع به من مهام وأدوار في حفظ التاريخ الوطني وحماية التراث المشترك وبناء الذاكرة الجماعية، وهذا من شأنه، أن يساهم في بناء ناشئة مشبعة بثقافة الأرشيف ومقدرة ومثمنة لها.

5.مادة الاجتماعيات (التاريخ بالأساس) حاملة أكثر من غيرها لقيم المواطنة، وفي هذا الصدد، وفي ظل ما يشهده الشأن التربوي من دينامية إصلاحية، تستدعي إعادة النظر في المناهج والبرامج والطرائق، نرى أن “مؤسسة أرشيف المغرب” الحاضنة للأرشيف العمومي، يمكن أن الاستعانة بخدماتها، في اتجاه إعادة الاعتبار لبرامج التاريخ القائمة منذ سنوات، بما يسمح بوضع برامج جديدة تساير المتغيرات الوطنية والإقليمية والدولية، وتتيح فرصا لتمرير القيم الوطنية والكونية للمتعلمات والمتعلمين.

6.ما تتوفر عليه المؤسسة من أرصدة أرشيفية (وثائق، صور، أشرطة، خرائط تاريخية ..)، يمكن للمؤسسة استثمارها في إعداد “دعامات ديدكتيكية”، توضع رهن إشارة أساتذة مادة الاجتماعيات خاصة بالتعليم الثانوي بسلكيه (الإعدادي والتأهيلي)، بشكل يسمح بتجويد الدرس التاريخي.

7.بما أن المؤسسات التعليمية خاصة البعيدة عن الرباط، يصعب عليها تنظيم زيارات مؤطرة لتلامذتها لمقر “أرشيف المغرب”، يمكن للمؤسسة، توثيق ما تقوم به من أنشطة بمناسبة الأعياد والمناسبات الوطنية (معارض الصورأساسا)، وتهيئة أشرطة تربوية، يمكن أن توضع رهن إشارة المؤسسات التعليمية، لتعميم الفائدة .

8.في انتظار البحث عن الصيغ الممكنة، لخلق بعض “المراكز الجهوية لأرشيف المغرب” تفاعلا مع خيار الجهوية المتقدمة، بما يضمن تثمين الأرشيف الجهوي وتحقيق مبدأ “أرشيف القرب”، يمكن للمؤسســة، الرهان في الوقت الراهن، على تعزيز تواجدها على منصات التواصل الاجتماعي، بشكل يتيح التعريف بأدوارها ومهامها وأنشطتها، مع التفكير في ضرورة تنزيل “موقع” أو “بوابة رسمية”، و إخراج “نسخة رقمية” لمجلة “أرشيف المغرب”، من أجل كسب رهان التواصل الناجع والفعال، وتحقيق الأهداف العلمية والتربوية للمؤسسة.

9.الحاجة الملحة لعقد اتفاقيات شراكة وتعاون بين “مؤسسة أرشيف المغرب” و” الوزارة الوصية على القطاع” (وزارة التربية الوطنية ..) و”الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين” و “المديريات الإقليمية”، بشكل يسمح بالتفكير في سبل التعاون، سواء في مجال “الأرشفة”، أو في مجال الإسهام في إرساء منظومة القيم بالفضاءات المدرسية.

تأسيسا على ما سبق، نختم بالقول، أن “الشأن التعليمي” هو شأن دولة وشأن مجتمع، قبل أن يكون شأن “حكومة” أو “وزارة وصية”، وواقع الحال، لا “يسر الناظرين”، وما باتت تعرفه العديد من الفضاءات التربوية من مشاهد العبث والتهور والتراخي وانعدام روح المسؤولية وتراجع منسوب القيم، هي مسؤولية مجتمعية متعددة المستويات، مما يجعل إرساء منظومة متينة للقيم، ضرورة ملحة لاعتبارين اثنين : أولهما: ما يشهده القطاع من دينامية إصلاحية، تقتضي المعالجة، وثانيهما: “النموذج التنموي المرتقب”، الذي لا يمكن تصوره، إلا في ظل تعليم عصري وناجع، يقطـع مع مفردات “الارتباك” و”اللخبطة” و”الارتجال”، منظومة للقيم، إرساؤها، يمر أولا، عبر إحداث “ثورة حقيقية” تضع حدا للمناهج المتهالكة والبرامج الغارقة في أوحال “الكم” المفضي للرتابة والجمود، وطرائق التقويم التي لازالت مصرة على مساءلة الذاكرة والتخزين والحفظ في زمن الثورة الرقمية الهائلة، والارتقاء ببنيات الاستقبال، والرهان على الحياة المدرسية، بشكل يسمح بالتعبير عن الطاقات والقدرات والمهارات والكفايات الحياتية، ويمر ثانيا، عبر انخراط مؤسسات التنشئة الاجتماعية في الشأن التربوي، وإذا خصصنا المقال لمؤسسة “أرشيف المغرب”، فهي دعوة موجهة لجميع الهيئات والمؤسسات العمومية، لتضطلع بأدوارها التربوية، في تأطير وتربية الناشئة (نساء ورجال الغد)، وأي تقصير في هذا الصدد، لن يكون إلا تقصيرا في حق “الوطن”، الذي نتحمل جميعا، مسؤولية تخليصه من مخالب التفاهة والعبث والسخافة… 

[email protected]

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى