أقلام حرةفي الواجهة

أزمة جائحة كورونا.. ومتطلبات التعاون الدولي

isjc

* بقلم: د. راضية الدباغ

– العلاقات الدولية وسيناريوهات العالم الجديد-

إذا كانت العلاقات الدولية هي علاقات صراع وتعاون، أو أنها تفسر ضمن معادلة السلم والحرب، لتعذر إيجاد تفاعلات اجتماعية على المستوى الدولي بعيدة عن معادلة الصراع والتعاون، أي الاعتماد المتبادل بين الفاعلين الدولتيين والفاعلين من غير الدول من جهة أخرى وتناقض الرؤى والمقاربات من جهة أخرى: فإنه سنة بعد سنة يرتفع منسوب التشابك العالمي، وتتعقد العلاقات الدولية بالمزيد.

فلابد من الإعتراف اليوم بأن ما يواجهه العالم من أزمة صحية، أو جائحة عالمية بإقرار من منظمة الصحة العالمية، تحول إلى أخطر أزمة تواجه دول العالم، متجاوزة بذلك مختلف التأثيرات الكبرى التي تخلّفها الأزمات والكوارث عادة، على مختلف الواجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والنفسية. الأمر الذي وضع العالم بأسره أمام اختبار قدرته على التعاون ووضع الخلافات السياسية والاقتصادية جانبا، فلم يشهد العالم سابقا قضية عالمية مشتركة تستدعي تعاون كل الدول، بل حتى في زمن الحرب العالمية الثانية، لم تشارك كل دول وشعوب العالم في الحرب على الرغم من أن تأثيراتها طالت الجميع. ولم يكن من الضروري استنفار كل الأمم والشعوب في تلك الفترة لأن أغلب من ابتعدوا عن الحرب لم تطلهم كل النيران أما الآن فالنيران مرشحة لتطال كل العالم.

المسألة التي إفضت إلى تعدد البراديغمات الدولية لتحديد أسباب تفشي هذا المرض بين دول العالم بما فيها الدول الكبرى، الأمر الذي خلّف ردود فعل واسعة في أوساط الكثير من المهتمين والباحثين والسياسيين، لما أسفرت عليه الوضعية الحالية من توتير في العلاقات وقطعها، وفي خلق أزماتٍ دوليةٍ وتحدياتٍ إقليمية، وذلك في ظل حرب الاتهامات المتبادلة، وسياسة تصنيف البلدان والشعوب، وإغلاق الحدود والبوابات، وطرد الوافدين ومنع الزائرين، ووقف الرحلات الجوية والتجارة البينية، المسألة التي قد تقود إلى إعادة رسم الحدود وتبادل العلاقات الدبلوماسية، فهناك من اعتبر الأمر مجرد وباء طبيعي، لا يختلف كثيرا من حيث مخاطره وتداعياته عن الأوبئة التي واجهت الإنسانية تاريخيا. وبين من اعتبر الموضوع امتدادا للحروب البيولوجية التي تندرج ضمن صراعات دولية، تنحو من خلالها الولايات المتحدة إلى إلحاق الأذى بالاقتصاد الصيني الذي ظل يحقق نسبا قياسية من النمو، رغم الأزمات المالية المتتالية التي عرفها العالم في السنوات الأخيرة.

المسألة التي طرحت أرضية دولية مليئة بالتفاعلات والترابطات المندمجة من جهة والتجاذبات والصراع من جهة ثانية، مما أفضى إلى أن هذه الأزمة الدولية الصحية ستعيد لا محالة صياغة العلاقات الدولية، وستنظمها من جديدٍ وفق قواعد صحية وأخلاقية مغايرة لتلك التي كانت قائمة على أساس المصالح والمنافع، ووفق العقائد والتحالفات والقواسم المشتركة.

فلقد أعاد انتشار فيروس “كورونا” على امتداد مناطق مختلفة من العالم، موضوع السلم والأمن الدوليين وما شهده من تطورات وتوسّع خلال العقود الثلاثة الأخيرة، إلى وطاولة النقاشات الدولية على المستويات السياسية والأكاديمية.في ظرف لم تعد فيه الحدود السياسية حائلا دون تمدد المخاطر العابرة للدول.

فالأزمة الدولية الصحية اليوم لم تلقي بظلال أشباحها عند الظواهر الاجتماعية التي تسبب في ظهورها، والعادات السيئة التي فرضتها، ولم تكتفي بإنهاء حياة البعض منا، بل أصاب العالم كله بمرض العزلة والانفصال، والإقصاء والإبعاد، والحجر والانطواء، ولم تعد المجتمعات قادرة على التداخل والتفاعل، بل تعدت ذلك إلى الاقتصاد العالمي والتجارة البينية، وإلى سوق السلع والبضائع والمنتجات، فتوقفت الكثير من المبادلات التجارية، وتعطلت الصفقات وألغيت، وتجمدت المشاريع وتأجلت، حتى تلك التي تتم عبر النت ومن خلال التواصل عن بعد طالها الأثر وشملها الحظر، وبات من المتعذر الشراء من بلاد معينة، أو السماح بمرور منتجاتها إلى بلاد أخرى، ما أدى إلى تدهور عام في الاقتصاد، وركود في التجارة، وانخفاض في أسعار النفط ومشتقاته، التي لعب جمود حركة الملاحة الجوية في الاستغناء عنها والتوقف عن عقدِ صفقاتٍ جديدةٍ لشرائها، وهو ما قد يتسبب في خلق حالة ركود وكساد عالمية غير مسبوقة.

مما وصفه بعض المحللين إلى وعودة المفهوم التقليدي الصارم للسيادة الدولية وما لها من تبعات استراتيجية، قد توقف زحف العولمة بكل مظاهرها الاقتصادية والسياسية..، وبخاصة مع تصاعد التيارات اليمينية المتطرفة والشعبوية في عدد من الدول منها المتضررة.

ويبقى السؤال مطروحا هل تتعاون دول العالم فيما بينها، ومعها منظمة الصحة العالمية، ومختلف مراكز البحوث والمختبرات الطبية والصحية، لمواجهة هذا الخطر الداهم والتصدي له، ومحاولة إيجاد علاجٍ ناجعٍ له، ودواء شاف منه، أم أن الإنسانية ستبقى رهينة باستمرار الاتهامات القائمة بين الصين والولايات المتحدة بصدد مصدر الفيروس، والصراع القيادي التقليدي إلى جانب قوى دولية أخرى نحو الاستئثار بإنتاج لقاح لهذا المرض الفتاك.

واستنادا إلى التشابك الحالي الدولي على مستوى الأنساق الدولية المختلفة (الإقتصادية والنقدية المالية والإجتماعية …) قبل وإثر الأزمة، يبدو أن هناك متغيرات كبرى ستلحق بعالم ما بعد رعب “كورونا”، وقد تفضي إلى زعزعة ركائز النظام الدولي الراهن، ليفسح المجال واسعا لإرساء نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، تحظى فيه قوى دولية كالصين بمكانة وازنة.

فإذا أضحت الأزمة الصحية اليوم قضية دولية تستدعي التفاعل الدولي والتعاون من أجل مواجهتها ووقاية الشعوب والأمم من خطرها. فمن المفروض أنها ليست قضية سياسية تبرز من خلالها الخصومات والأحقاد والرغبة في الانتقام ، بل هي فرصة لمراجعة الذات والوقوف على الاختلالات، ومحاولة تجاوزها بسبل علمية وعقلانية في المستقبل. وانتشال الشعور بالمواطنة والتضامن الذي مات بين الأسر والجتمعات وبين الدول والعالم.

وضرورة إعادة توجيه استراتيجيات التقدم لدينا والإهتمام بالأولويات في مجال الإستثمار العلمي باعتباره البوابة الحقيقية نحو التقدم، وتحقيق الأمن بمفهومه الإنساني الشامل..

ليبقى السؤال المطروح اليوم هو؟ إذا كان العالم في حالة من الإستنفار والتعاون لكي يتجنب العالم أخطار عدو صعب لا يهادن ولا يفاوض ولا يساوم. فهل ستؤثر مثل هذه الأمور المطلوبة على العلاقات الدولية؟

نعم بالتأكيد. التعاون في أوقات الشدة يقرب القلوب، ويخفف كثيرا من الأحقاد والكراهية والشدة هي اختبار للدول كما هي للأشخاص لأنها تكشف عن معدن الدولة ومعدن المجتمعات على حد سواء. ومن المحتمل أن يحول التصرف المسؤول العدو إلى صديق، والعلاقات المقطوعة إلى تعاون، ولهذا من المتوقع أن تتطور العلاقات بصورة إيجابية بين الصين وإيطاليا، وبين الصين وإيران، وبين روسيا وإيطاليا والصين وإيران وفنزويلا. أي أن علاقات التعاون ستتطور بين الدول التي تبادلت المساعدات وتبادلت المعلومات والخبرات.

ومن المتوقع أن ترتقي العلاقات الدولية بين مختلف الأمم لأن الشدة مشتركة، ولأن الخوف عادة يجمع القطيع. من المفروض أن تقام العلاقات الدولية على المنطق والعقلانية والرغبة في التعاون المتبادل.

– فيزيد منسوب ترسيخ ثقافة تدبير الكوارث والأزمات، بين الأفراد وداخل المؤسسات الحكومية والخاصة، هو مدخل ضروري وأساسي للتخفيف من حدّة الأخطار الناجمة عنهما، ولتوفير الأجواء النفسية الكفيلة بمواجهتها بقدر من الاتزان والجاهزية.

– من المتوقع أيضا أن يرتفع مستوى التعاون بين الدول في المجالات الصحية والطبية حتى لو بعد الخروج من هذه الأزمة.

– أيقظ كورونا الأمم على النقص في المستلزمات الطبية والصحية، ووجدت العديد من الدول أن التعاون في هذه المجالات يجب أن يبقى نشطت حتى لا تكون هناك مفاجآت صحية مستقبلا.

– وستنهض الاتفاقات الدولية والثنائية الخاصة بالتعاون الطبي والصحي. وتبادل المعلومات سيكون على رأس بنود هذه الاتفاقيات.

– وستزيد الأهمية والوعي لدى الدول الخاضعة للعقوبات الأمريكية برفع مستوى التعاون الدولي. (حيث من المفروض وضع كل الخلافات الدولية جانبا الآن بغض النظر عن حجمها وإلحاحها وأهميتها والتركيز فقط على القضاء على الوباء الذي يطال الآن الغالبية الساحقة من دول العالم مثل إيران التي هي من أشد الدول تعرضا لخطر الوباء. ومع ذلك لم تفلح كل المناشدات الدولية للإدارة الأمريكية بفك الحصار أو تخفيفه لتصل المساعدات الطبية والصحية. (بشهادة منظمة الصحة العالمية، إيران تقوم بجهود ضخمة وحثيثة ومركزة من أجل محاصرة الوباء).

– دول كثيرة تعاني الفقر والأزمات المالية والاقتصادية ولا تتمكن من مواجهة هجوم للوباء، وهي بحاجة لدعم الدول الأخرى. واضح أن الدول لا تتلكأ في تقديم ما يمكنها من الدعم.

– ارتفاع أهمية القيم الإنسانية التي تركز على العمل الجماعي والتعاون المتبادل وعلى تقدير قيمة الإنسان والمحافظة على حياته بقدر الإمكان ووقايته من الأمراض السارية والمفاجئة.

– الاهتمام بالإنسان سيتصاعد، ليس فقط فيما يتعلق بالحقوق السياسية، وإنما أيضا فيما يتعلق بأموره الصحية وتوفير الخدمات الصحية الضرورية والمتوقعة. مما سيدفع باتجاه زيادة موازنات وزارات الصحة على المستوى العالمي.

– ستواجه الحكومات انتقادات حادة من قبل الجمهور والمثقفين والمختصين في القضايا الصحية والطبية بسبب الأداء غير الجيد. دول كثيرة وجدت نفسها بدون استعدادات كافية لمواجهة أوبئة، وأخرى وجدت نفسها بدون معدات ومختبرات ومراكز بحثية كافية. ستؤدي الانتقادات الموجهة للحكومات إلى اتباع سياسات صحية جديدة سيستفيد منها المواطنون بخاصة الفقراء منهم.

– ترسيخ ثقافة إدارة الأزمات داخل المجتمع، ذلك أن جزءا كبيرا من الخسائر التي تترتب عن الكوارث والأوبئة الفجائية، لا تتسبب فيها هذه الأخيرة بشكل مباشر، بل ترتبط في جزء مهم منها بحالة الارتباك والذهول التي تخلفها في أوساط الناس، ما يدفع إلى سلوكات وخيارات متسرعة ومرتجلة وغير محسوبة قد تضاعف من حجم الخسائر.

ويبقى التساؤل المطروح والمأمول في مدار العلاقات الدولية اليوم هو:

هل يطمح العالم أن يخرج من هذه الكارثة الإنسانية بقدر أعلى من التضامن الجماعى واستعادة القيم الإنسانية لتحكم العلاقات بين الدول، أى هل نأمل بالمزيد من “أنسنة العلاقات الدولية” وأن تعود القيم الإنسانية الراقية خاصة التضامن المشترك لتعيد ضبط انفلات سياسات الحكم فى كثير من الدول بالاتجاه نحو المزيد من “أنسنة الحكم” والمزيد من الثقة المتبادلة بين الحاكمين والمحكومين؟ لأن العقود الأخيرة شهدت درجات عالية من تدنى القيم الإنسانية والأخلاقية كمكون أساسى للعلاقات الدولية لصالح “قاعدة المصلحة” التى جعلت الأقوياء يكتسحون الضعفاء وهم يصارعون من أجل التفوق والتقدم حتى وإن على حساب حقوق ومصالح الآخرين.

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى