في الواجهةكتاب السفير

“الكوفيـــد” فيــه و فيــه

isjc

* بقلم : عزيز لعويسي

لا زال الفيـروس التاجي “كوفيـــد 19” يحصد الآلاف من الإصابات المؤكدة والوفيات في صمت، محدثا عبر العالم حالة من الهلع والتوجـس والترقب والانتظار، في الوقت الذي استعصى فيه التوصل إلى علاج أو لقاح ناجع من شأنه التصــدي بشكل لا رجعة فيه للوبـاء العنيد، ويضمن العودة التدريجية و “الميمونة” للحياة المألوفة التي سلبت منا قسـرا ذات يــوم، “كوفيــد” مرعب، بالقدر ما حل بين ظهرانينا حاملا للقسوة والهلــع، وحكم علينا بالبقاء رهن اعتقال تدابير حالة الطوارئ الصحية وإجراءات الحجر الصحـي، بالقدر ما كشف عن قوتنا الجبانة وغطرستنا المزيفة، وفرض علينا إعادة النظر في الكثير من المفاهيم والتمثلات التي لم نكن قطعـا، نعير لها الاهتمام أو الانتباه، وعلى رأسها الحرية والحيـاة والصبر والقدرة على التحمل، والمرونة في التخلي عن العادات والممارسات القديمة، لكن “الكوفيد” ذاته، أبان لنا بما لا يدع مجالا للشك، أن “الكوفيد” فيه و فيه .

هناك “الكوفيد التاجي” الذي فرض علينا أن ندرك ماهيتنا وحقيقتنا ونختبر مدى قدرتنا على التكيف مع الكوارث والأزمات والنكبات ونستخلص منها الدروس والعبر، لتقويم ممارساتنا وتغيير ما يعترينا من عادات سيئة وتقاليد بالية، وألزمنا أن نصغي لصوت الضمير الإنساني وما يجمعنا من قيم بشرية مشتركة، وهناك “كوفيد الإشاعة والأخبار الزائفة” الذي تناسل كالفطريات منذ فرض حالة الطــوارئ الصحية، واستهدف بالأساس قطاع التربية والتعليم عبر سلسلة من الأخبار الكاذبة التي انتشرت وتنتشر بمنصات التواصل الاجتماعي كما تنتشر النيران في الهشيم، محدثة حالة من الخوف والتوجس والترقب بين التلاميذ والأسر على حد ســـواء، حول مستقبل العام الدراسي وسبل استكمال ما تبقى منـه.

وهناك “كوفيـد العبث” الذي عكسته وتعكسه جملة من الممارسات الفاقدة للبوصلة، نلخصها في حالات التهور والتراخي، في ظل ما نعاينه من خرق سافر لحالة الطوارئ الصحية ولإجراء حضر التجول، ويكفي الإشارة إلى ما تعرفه الأسواق الشعبية من تجمعات غير مفهومة، ومن انتشار “الباعة المتجولون” بالشوارع الكبرى، بشكل يعطي الانطباع أننا نعيش في زمن ما “قبل كورونا”، وما تتم ملاحظته من إقبال على الخروج للشوارع بدون سبب بكمامات “نص نص” تارة توضــع أسفل الفم وتارة ثانية توضع على مستوى العنــق، وما يتم تداوله من صور ومقاطع فيديو من إقبال على السباحة في الشواطئ ومن تنظيم لبعض الدوريات الرمضانية ومن خروج جماعي في بعض المدن للمطالبة ب”فلوس الرميد” (دعم صندوق كورونا)، ومن استقبالات شعبية لعدد من مصابي “كورونا” الذين تماثلوا للشفاء، بالتصفيقات والزغاريد والتحايا والعناق، دون اكتراث لحالة الطوارئ الصحية، ودون أي انضباط للتدابير الوقائية خاصة فيما يتعلق بالتباعد الاجتماعي واحترام مسافات الأمان …

هناك “كوفيد الجدل السياسي”، الذي أبى إلا أن يحضر في ظرفية خاصة واستثنائية تقتضي التعبئة الجماعية وتوحيد الصف لمواجهة العدو المشترك (كورونا)، بعد تسريب مشروع قانون شبكات التواصل الاجتماعي، الذي أثار زوبعة من الجدل والسخط والإدانة المتعددة المستويات، ليس فقط، لأنه فرض على الأفواه استعمال “الكمامة الإجبارية” بشكل مستدام، ولكن، لأنه عكس نوعا من المكر السياسي في استثمار الظرفية الحرجة، لمحاولة تمرير مشروع قانون “لامحل له من الإعراب” و “خارج النص”، مما استعجل تعليقه إلى “أجل غير مسمى”، ونـرى أن محاولة تمرير مشروع قانون من هذا القبيل في هذا الزمن “الكوروني”، هو محاولة “فاقدة للبوصلة”، تفرض على الساسة، التعامل “المسؤول” و”الجدي” مع مشاريع القوانين التي ترهن مستقبل المغاربة، بنــوع من “الالتزام” و”الانضباط” السياسي، بعيدا عن النعرات الحزبية أو التجاذبات السياسية أو الحسابات الانتخابوية الضيقة، من منطلق أن بعض القوانين لها وضعية خاصة، لأنها خارج الزمن السياسي وخارج الزمن الحكومي، ولا يمكن قطعا، إخضاعها للأهواء والصراعات الخفية أو المعلنة، حرصا على تنزيل إنتاج تشريعي رصين وناجع، يحقق نوعا من التراضي والإجماع السياسي والاجتماعي، ويحقق للقواعد القانونية قوتها ومتانتها وديمومتها.

وهناك “كوفيد العبث السياسي” الذي انتشر منذ سنوات في مشهدنا السياسي، وجعل من السياسة مفهوما مقرونا باللغط وتسلق الدرجات واللهث وراء المكاسب والمغانم، ومن الانتخابات، مجرد أفلام نمطية يعاد إنتاجها كل خمس سنوات بأبطال قدامى وسيناريوهات مألوفة، تبدأ بالحملات الانتخابوية المسعورة، وتنتهي بالإعلان عن النتائج وتقسيم الكراسي والمكاسب، بعيدا كل البعد عن مفردات المسؤولية والمحاسبة والعقاب، بشكل كرس ويكــرس في أذهان الناس، أن لا شيء يتغير في مشهد سياسي راكد، تحتاج قاراته ليس فقط إلى “الزحزحة”، بل إلى ثــورة شاملة، تعطي للسياسة معنى وللانتخابات مغزى، و”الكوفيد السياسي”، هو جزء من “الكوفيد الحزبي”، الــذي وضعنا كمواطنين، أمام “أحزاب”بعضها راكد وبعضها نائم والبعض الثالث يكاد لا يسمع له صوت، إلا في زمن “الحملات الانتخابوية المسعورة”، كوفيد “19” عرى على حقيقة الأحزاب السياسية التي خفت بريقها في زمن الجائحة، أمام ما قدمته الدولة ومؤسساتها، وما صدر عن المجتمع المدني من مبادرات مواطنة تضامنية.

هناك “كوفيــد الصحافة”، الذي عرى عن سوءة “الصحافة غير المهنية” التي كانت تقتات – قبل كورونا – على “البوز” والأخبار المثيرة، وتجـري وراء أخبار “النجوم التافهة”، والتي وجدت نفسها، في ظل حالة الطوارئ الصحية وانخفاض منسوب التفاهة والجريمة، مضطرة لتعقب وتتبع الحملات التي يقوم بها رجال وأعــوان السلطة بالشارع العام، بكل ما يعتري ذلك من ممارسات غير قانونية ماسة بالحياة الخاصة، أو اللجــوء إلى تصوير فيديوهات توثق للشوارع الفارغة والمدن البئيسة، أو التحول القسري إلى تقديم “النشرات الجوية” المرتبطة بتتبع أرقام الإصابات المؤكدة وإحصاء الوفيات، وهو “كوفيد” لا بد من القطع معه، لأنه يسيء لمهنة الصحافة المهنية والأخلاقية، ويجردها من قيمتها كسلطة رابعة تواكب التحولات المجتمعية وترتقي بالأذواق وتحمي المواطنين من كل أورام التفاهة والسخافة ..

هي إذن أزمة “الكوفيد” التي تتاعيش بين ظهرانينا وتحيى في ممارساتنا وتصرفاتنا، وربما هي أخطر من “كوفيد 19” الذي قد يتنازل عن قوته وجبروته، وقد يرحل عنا بدون سابق إعــلان دون التوصل إلى العلاج الناجع، لكننا نعترف أنه “أربكنا” و”أحرجنا” و”أزعجنا” ومنحنا فرصة سانحة لننتبـه إلى أخطائنا وزلاتنا، ونتلمس ما يعشش في ذواتنا من جبـن وقوة زائفة وظلم وعناد وصـدام، ومن سعي مستدام نحو إرضاء أنانيتنا المفرطة، ولو على حساب إبعاد أو إسقاط أو القضاء على بعضنـا البعض بدون أدنى رحمة أو شفقـة، وهي دروس وعبر وهدايا مجانيــة منحها إيانا “الفيروس التاجي”، الذي وضعنا في صلب اختبار في المواطنة، فشلنا في اجتيازه بسياستنا المرتبكة وأحزابنا الراكدة وتعليمنا الذي يحتاج إلى إقـلاع حقيقي، وإعلامنا الذي لم يتخلص بعد من ورم التفاهة والسخافة، وممارساتنا المجتمعية الغارقة في التهـور والعبث والأنانية والتراخي وانعــدام المسؤولية، وعليـه، فإذا كان الهاجس اليوم في المغرب كغيره من بلدان العالم، هو الخروج التدريجي من الأزمة “الكوفيدية”، فلا زمن لنا بعد “كوفيد 19″، ســوى استئصال “الكوفيد” الذي يسيطر على ممارساتنا وتصرفاتنا، وهو “كوفيد” متعدد الزوايا، لا يحتاج قطعا إلى تحليلات سريرية أو مخبريــة، ولكن يحتاج إلى “لقاح المواطنة” الذي يهزم ما يعشش في ذواتنا من فيروسات العبث والريع والتهور والوصولية والانتهازية والفوضويــة، وهي فيروسات قاتلة تشل حركة الوطن وتحرمــه من فرص النهوض والارتقاء والإقلاع … معركة التصدي لها، تبــدأ بالتعليم الناجع والفعال الذي يصنــع الإنسان/ المواطن الذي تستند إليه الدولة في الظرفيات الخاصة والاستثنائية، في ظل إرادة سياسية تراهــن على “البشـر” لا على “الحجـر”  …

[email protected]

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى