في الواجهةكتاب السفير

الأرشيــف في مرآة “كورونا”

isjc

* بقلم : عزيز لعويـسـي

منذ بدايــة القرن العشرين، مـر العالم بأحداث كبـرى بصمت التاريخ المعاصر والراهن، لعل أبرزها وأكثرها تأثيرا، الحرب العظمى (1918-1914م) والكساد الكبير (1929م) والحرب العالمية الثانية (1945-1939م)، وما أفرزته من متغيرات دولية متعددة المستويات، من أبرزها انقسام العالم إلى معسكرين متعارضين إيديولوجيا واقتصاديا (اشتراكي، رأسمالي) تميزت العلاقات بينهما بالصراع والتوتر في إطار “الحرب الباردة” التي بصمت تاريخ العلاقات الدوليـة حتى تفكك الاتحاد السوفياتي (1991م)، وبدايـة تشكل ملامح عالم جديد، أطلق العنان للولايات المتحدة الأمريكية لتـتـسيـد العالم، وكلها أحـداثا مفصلية، صنعها الإنسان وتحكم في سيروراتها وتطوراتها ومساراتها، لكــن وبعيدا عن النعرات السياسية والنزاعات القومية والصراعات الإمبريالية، والتجاذبات الإيديولوجية التـي قسمت العالم إلى شرق وغرب، وبعيدا عن لغـة القنابل ودوي المدافــع، وما أفرزته من خراب ودمـار متعدد الزوايـا خلال الحربين العالميتين، يأبى وبــاء “كورونا المستجد” (كوفيد-19)، إلا أن يبصم تاريخ العالم مع بداية الألفيـة الثالثة، وينقلـه بشرقه وغربه وبشماله وجنوبــه، بشكل قســري إلى عمق “جائحة عالمية” عصيـة على الفهم والإدراك.

جائحة تحكم فيها “فيروس تاجي” (كوفيد-19)، يصعب الحسم على الأقل في الوقت الراهـن، في ظروف وملابسات ظهوره في الصين واكتساحه غير المفهوم لمعظم بلــدان العالم، لكن يمكن الاتفاق حول ما أحدثه ويحدثـه من مشاهد الارتباك والهلــع والتوجـس والترقب والانتظـار، وما ألحقـه من آثــار على المنظومات الصحية خاصة في البلدان المتقدمة، ومن تداعيات اقتصادية واجتماعيـة وتربوية ونفسية متعددة المستويات، فرضت على العالم بعظمائه وبسطائه وفقرائه، التموقــع في نفس المعترك في حرب ليست كمثيلاتها، حرب ليست بين بني البشر، ولكن بين البشر و”فيروس مجهري” لم تنفع معه قوة ولا غطرسة ولا نفوذ ولا جبروت، حرب شرسة استدعت، الرهان على أدوات بديلة بعيدة عن لغة التحدي والوعد والوعيد والتهديد، فراهنت الدول حسب قدراتها وإمكانياتها المتاحة، على تنزيل حزمة من التدابير ذات الطابع الوقائي، على رأسها “إغــلاق الحدود الوطنية” وفرض “حالات الطوارئ الصحية” وما يرتبط بها من “حجر صحي” ومن تقيد بقواعد الصحة والسلامة، ومن التفاتة لابديل عنها نحو “المنظومات الصحية” بما يضمن تأهيلها والارتقاء بقدراتها، بشكل يجعلها قادرة على استيعاب حصاد الفيروس العنيد من الإصابات المؤكدة والضحايا، ولم يجد المغرب بدا، من الانخراط التلقائي في هذه الحرب الشاملة ضد الوباء المرعب، فبادر مبكرا إلى توقيف الدراسة الحضورية والرهان على التعليم “عن بعد” ضمانا للاستمرارية البيداغوجيـة، وإغلاق الأماكن العمومية والخصوصية، ومنع التظاهرات والتجمعات، وإغلاق أبواب المساجد مع الحرص على رفع الآذان بناء على إفتــاء الهيئة العلمية للإفتاء بالمجلس العلمي الأعلى، مـوازاة مع قرار إغـلاق الحدود الوطنيـة، والرهان على “القدرات الذاتيــة” لتدبير جائحة عالمية أربكت كل العالم، بإحداث “صندوق تدبير جائحة كورونا” وخلق “لجنة اليقظة الاقتصاديـة” لتدبيـر التداعيات الجانبيـة للأزمة خاصة على المستوييـن الاقتصادي والاجتماعي، دون إغفال الرهان على “الإبــداع المغربي” الذي أطلق العنان لممارسات التضامن والتعاضد وغيرها.

وربط “كورونا” بحقل “الأرشيف” في هذه الظرفيـة الخاصة والاستثنائية، قد يبدو للبعــض نوعا من المجازفة غير المحمودة، وقـد يبدو للبعـض الآخر، محاولة عصية، لبنـاء علاقة بين مفهومين، يصعب ترويضهما وربط جسـور التواصل بينهما، في ظل جائحة لا أحد يعرف منتهاها ومرساهـا، لكن مجموعة من الاعتبارات، تفرض استحضار “الأرشيف” في زمن “كوروني” لم يربك العالم فحسب، بل و سيحدث ثورة هائلة في عدد من السياسات والأفكار والمفاهيم والأولويات والاستراتيجيات، وهي اعتبارات نحدد معالمها الكبرى على النحو التالي :

– الأرشيف في شموليته، هو مرآة عاكسة لما يكون أو ينتج على مستوى الإدارات من أنشطة وما يتخذ من قرارات متعددة الزوايا.

– الأرشيف لا يرتبط فقط بتلك الوثائــق الأرشيفية التي يتخذ بشأنها قرار “الحفظ النهائي” في حضن “مؤسسة أرشيف المغرب”، لقيمة ما تتضمنه من معطيات أو أرقام أو بيانات عاكسة للحظــة أو الظرفية التي أنتجتها، بل يمتد مدلوله ليشمل الوثائق في أماكن “المنشأ” (الأرشيف الجارية) مرورا بالأرشيف “الوسيطة” وانتهاء بالأرشيف “النهائية”.

– ما صدر في ظل الجائحة “الكورونية” من منتوج أرشيفي متعدد الزوايا، هو مرآة عاكسة لمنهجية تدبير الدول لتداعيات الأزمة “الفجائية”.

وبناء على ما تمت الإشارة إليه من اعتبارات، لا مناص من التأكيـد أن الجائحة “الفجائية”، فرضت على كل دول العالم والمغرب جزء منها، التموقــع في صلب أزمة عالمية “غير مسبوقة”، اقتضت اتخاذ قرارات “استثنائية” من شأنها التصــدي للوباء العنيد والحيلولة دون تفشي العــدوى، والتدبيـر الأمثل لتداعياته المتعـددة المستويات، وهي قرارات موثقة في “وثائق أرشيفية” حاملة لمعطيات وأرقام وبيانات على جانب كبير من الأهمية والثــراء، تتيح إمكانية التعرف على أساليب التفكيـر في ظل الأزمات والنكبات، مدى القدرة على اتخاذ القرارات الناجعة، مدى صواب ودقة التدابيـر الوقائية والاحترازية، مدى القدرة على تدبير التداعيات الجانبية للأزمة (اقتصاديا، اجتماعيا، تربويا، أمنيا، قضائيا …)، مدى قوة المنظومات الصحية ونجاعة القرارات المتخذة لتأهيلها والرفـع من قدراتها، مدى قدرة القوات العمومية على فرض احترام مقتضيات حالات الطوارئ الصحية، و مدى احترام المواطنين للتدابير الوقائية والاحترازيـة …إلخ، والوثيقة الأرشيفية بهذا التصور، هي “شاهد على العصر” و”شاهد على الجائحة” التي أربكت العالم.

وتوضيحا للرؤيـة، فكل الوثائق الأرشيفية التي أنتجت أو كونت في المغرب، في إطار تدبير هذه الجائحة، هي وثائـق أرشيفية “جارية”، عاكسة لما اتخذ أو قد يتخذ من قرارات ذات صلة بتدبير الجائحة، فمن خلالها يمكـن وضع – تحت المجهر – القرار السياسي (إغلاق الحدود الوطنية، فرض حالة الطوارئ الصحية، فرض حظر التجول، إحداث صندوق تدبير جائحة كورونا للدعم الاجتماعي والاقتصـادي، مدى تدبير ملف المغاربة العالقين بالخارج، مدى تواصل الحكومة مع المواطنين …) والقرار التربوي (توقيف الدراسة الحضورية والاعتماد على “التعليم عن بعد” ضمانا للاستمرارية البيداغوجية، مدى نجاعة “التعليم عن بعد”، مدى صواب سيناريو إنهاء العام الدراسي والجامعي والمهني، مدى سلامة التدابير المرتبطة بإجراء الامتحانات، مدى تواصل الوزارة الوصية، مدى قدرتها على الارتقاء بالمنظومة التربوية …) والقرار الديني (إغلاق أبواب المساجد مع الحرص على رفع الآذان…) والقرار الأمني والقضائي (مدى القدرة على فرض احترام مقتضيات قانون حالة الطوارئ الصحية، مدى القدرة على زجر المخالفين، مدى ارتفاع منسوب الجريمة في ظل الجائحة، مدى انفتاح الإدارة الأمنية والقضائية على الرقمنة …) والقرار اقتصادي (مدى القدرة على مواكبة المقاولة المغربية ..) والقرار الاجتماعي (مدى القدرة على تقديم الدعم الاجتماعي لكل الأسر الفقيرة والمعوزة …) إلخ.

وإجمالا، يمكن القول، أن جميع القرارات المتخذة في إطار تدبيــر “جائحة كورونا”، دخلت وستدخل في عالم “الأرشيف”، وستمر بدون شك عبر مراحل دورة الأرشيف، بــدءا بالأرشيف “الجارية” مرورا بالأرشيف “الوسيطة” وانتهاء بالأرشيف “النهائيـة” التي سينتهي بها المطاف في أحضان “مؤسسة أرشيف المغرب”، وهي وثائق “ليست كمثيلاتها”، ليس فقط لأنها توثـق للجائحة التي بعثرت أوراق العالم، ولكن أيضا، لأنها وثائــق “ناطقة” حاملة لمعطيات وأرقام وبيانات، تسائل القرار السياسي وترصد ما اعترى الممارسة السياسية والإداريـة في زمن الجائحة، من مشاهد القوة والنجاعة، وما تخللها من مفردات القصـور والمحدوديـة، وقيمتها السياسية والتدبيريـة، تكمن في كونها تختزل ما راكمته الدول والمجتمعات والأفراد من خبرات وتجارب في ظل جائحة عالمية، لا أحد كان يتوقعها أو ينتظرها، وهي بذلك، تتيــح قاعدة بيانات غنيـة، لا مناص من إعادة دراستها وتمحيصها، ليس فقط، من أجل الارتقاء بالقدرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية في زمن “ما بعد كورونا”، ولكن أيضـا، من أجل إرساء ثقافة سياسية ومجتمعية خاصة بتدبيـر الأزمات والنكبات والمخاطر، تجعل الدول والمجتمعات تواجه المخاطر والتحديات والأزمات الفجائية برصانة وتبصـر، بعيدا عن مفردات التردد واللخبطة والارتبــاك، وبما أن هذه الوثائق الأرشيفية بهذه القيمة المتعددة المستويات، فهـي تقتضي عنايـة خاصة، بحسن تدبيرها على مستوى “الحفظ”، وتحويـل معطياتها إلى “قاعدة بيانات رقمية”، تسمــح بصناعة القرارات الناجعة في اللحظات العادية كما في اللحظات الاستثنائية.

وقبل الختم، نؤكد أن جائحة كورونا، بالقدر ما حملت مشاهد القسوة والهلع والارتباك عبر العالم، بالقدر ما جادت بحزمة من الدروس والعبر، فرضت على الدول والمجتمعات والأفراد، التفكير والإبداع واتخاذ القرارات في زمن “الاستثناء”، أما “الأرشيف” الذي وضعناه في “مرآة كورونا”، فلا مناص له من التحول والتغير، في ظل عالم “ما بعد كوروني” يقتضي الارتقاء بمستوى الممارسة الأرشيفية، بشكل يضمن انخراطها الرصين في الرهانات والتحديات الآنية والمستقبلية.

ونختم بالإشارة إلى أن المؤسسات والهيئات المكلفة بأمر تدبير الأرشيف عبر المعالم ومنها “مؤسسة أرشيف المغرب”، تبقى مدعوة لاستثمار معطيات هذه الظرفية الخاصة والاستثنائية، بتحسيس صناع القرار (دول، مؤسسات عمومية، مؤسسات خصوصية، مجتمع مدني…) بأهمية توثيق ما يتخذ من قرارات ذات صلة بتدبير الجائحة، وبقيمة ما يتشكل من أرصدة أرشيفية “نوعية” (مرتبطة بالأوبئـة)، ليس فقط، من أجل تسخيرها كأدلة لإثبات الحقوق، ولكن أيضا، لتطوير وتجويد واقع الممارسة السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية في “عالم ما بعد كورونا” (صناعة القرارات) وإرساء منظومات ناجعة لتدبير المخاطر والأزمات (وطنيا ودوليا) بشكل يسمح بالتصدي لكل الحوادث الفجائية المحتملة، وتدعيم ثقافات الحداثة عبر العالم وما يرتبط بها من شفافية ومساءلة ومحاسبة، طالما أن كل ما تم إنتاجه أو تكوينه من وثائق أرشيفية، سيوضع تحت تصرف الجمهور في إطار “الحق في المعلومة”…

[email protected]

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى