في الواجهةكتاب السفير

شكـرا عزيــزي “كوفيــد”

isjc

* بقلم : عزيـز لعويــسي

جائحة “كورونا” المستجد – كوفيـد 19 -، بالقدر ما تفـرض علينا استحضار ما عاشته البشريـة عبر تاريخها الطويل من أمراض معدية وأوبئة فتاكة وكوارث طبيعية وحروب وأزمات وحوادث فجائيـة، حصدت الملايين من الإصابات والأرواح، بالقدر ما نؤكد أنها لن تكــون الأخيرة، في عالم مرتبـك زاغ عن سكـة الإنسانيـة وشوارع القيم المشتركـة بين بني البشـر، وليس بالضــرورة أن تكون الجائحة ذات “هويـة وبائيــة” كما هو حال “كورونا” وقبلها “إيبـولا” و”الكوليرا” و”الطاعون الأسود”، وغير ذلك من الأوبئـة التي بصمت تاريخ البشرية، هناك جوائح لا تخلـو من بصمات الخطر والفتك والإزعاج والارتباك، فهناك مثلا، جائحة “الأنانية المفرطة” و”المصلحة العمياء” التي باتت تتحكم في مصير الدول والشعوب المستضعفة، تارة بالقهر وأخرى بالقسوة وثالثة بالتجويـع ورابعة بالتشريـد، وهناك جائحـة “انحطـاط القيـم” التي تطلــق العنان لممارسـات الجبـن والتفسـخ والخبث واللاعـدالة، وهناك جائحة “الجشـع” التي لا تؤمـن إلا بسلطة المال والأعمـال والنهب والسلب والكسـب والحلب، وهناك جائحـة “الفسـاد” التي أحكمـت الخناق على القيم والأخـلاق وقادت العالم إلـى هاويـة الإفــلاس، وهناك جائحـة “السياسـة” التي حولـت الأحزاب السياسية إلى دكاكيـن، وجعلت من الساسـة أو على الأقل بعض الساسـة، بارعين في لعبة العبث والريــع والأنانيـة والمصلحة والعناد والجدل واللغــط والزلات … وهذه الممارسات وغيرها، بالقدر ما تحمل مشاهد القسوة والعبث والأنانية والصراع والكراهية والإقصاء، بالقدر ما تقف اليـوم، عاجزة أمام فيـروس تاجي “مجهري”، كشف بما لا يدع مجــالا للشك، أننا أضعف مما كنا نتصـور، رغم ما حققناه من ثورة علمية ورقمية، استعصى عليها حتى اليـوم، تخليصنا من مخالــب “الكوفيد” العنيد …

لسنا مؤهلين لتفسير ما حدث ويحدث في ظل لحظة خاصة واستثنائيــة تمر منها البشريـة، تسائـل الحقيقة والوجـود والدين والعلم والموت والحياة والقوة والضعف والحاضر والمستقبل …، ونكاد نجـــزم أن لا أحد يستطيـع تفسير أو تحليل أو فهم الجائحـة و كواليسها، وحتى الجنـــوح نحو “نظرية المؤامرة” لإثبــات هوية “كوفيـد” العنيــد وتحديد “بلد المنشـأ”، لن يكــون إلا هـدرا للزمـن وإرهاقا للفكـر وحكما على العقـل بالبقـاء رهن الاعتقـال داخل متاهات لا مدخلات لها ولا مخرجات، وحتـى نتحكم في أزرار النقــاش وكبـح جمـاح الجدل، قد يقــول قائل أن “الكوفيــد” من صنع البشر وخرج من مختبر “ووهان” بقصد أو بدونه، واجتاح العالم بطريقة عصيـة على الفهم والإدراك، وقد يقــول قائل آخر أنه أمريكي المنشأ، وقد يقـول ثالث أنه يشكل مـرآة عاكسة لحرب بيولوجيـة صامتة وخبيثـة بين العملاقين الكبيرين (أمريكا والصين)، وقد يقول رابـع، أنه من صنع الطبيعة ومنها انتقل إلى البشــر، وقد يقـول خامس، أنه مجرد لعنة من الله بسبب انغماسنا في الرذائل والخطايا، لكـن، يصعب إن لم نقل يستحيـل الميل لهـذا الطرح أو ذاك، في ظل سيـادة مناخ “اللاحقيقــة” الذي يفتــح شهيـة التأويل والاحتمال، في لحظة مفصلية، لا أسلحة متاحة فيها، سـوى أسلحة الوقاية والاحتراز، في انتظـار علاج يأتي وقد لا يأتي … لكن ومهما كانت هويــة “كوفيد”، ومهما كانت ظروف وملابسـات اجتياحه الكاسح للعالم، فالحقيقة الوحيـدة التي لا يمكـن الاختـلاف بشأنها، أن الجائحة أربكت العالم بمشارقـه ومغاربـه، وزحزحت قارات الكثيـر من المفاهيم كالعولمة والدولة والوطنية والقومية والصحة والدين والعلم والحياة والموت …، وكشفت عنــوة ودون سابق إعلان، عن سوءة حقيقتنا الغائبـة، وأبانت كم نحن ضعفاء، رغم ما حققناه من تقــدم، وقف حتى اللحظـة، عاجزا عن تخليصنا من فيــروس مجهري أدخلنا جماعة في حالة من الشك والتوجــس والخوف والترقب والانتظار، ونحن داخل المنازل والبيوتات نحصي الإصابات الموكدة والوفيات، في إطار “حجر صحي” استنـزف كل طاقاتنا وقدراتنا الصحية والنفسية والتفكيريـة …

بالقدر ما أربكنا “كوفيد المشاكس”، وبعثـر أوراقنا بقسـوة، وتحكم في قراراتنا واختياراتنـا، وكشــف بكبرياء عما يعترينا من مشاهد الضعـف والقصـور، بالقدر ما نعتــرف أنه غير نظرتنا للمحيط والحيــاة، لما جـاد به من دروس وعبــر، ومن خلاصـات ما كنـا نستطيــع أن ننتبـه إليها أو نلتقـط إشاراتها، ونحن وسـط زحمـة الزمـن، تائهيـن في رحلة البحث عن إرواء عطــش أنانيتنـا وعنادنـا وأهوائنـا .. ” كوفيـد ” شكل “الصاعقة” أو “التمــاس الكهربائي” الذي فـرض علينا فرملـة حركاتنا وخطواتنا، لنكتشـف الذات ونراجــع الخطط والأولويات والاستراتيجيات، وننتبـه إلى ما يجمعنا من مشتـرك ديني وثقافي وهوياتي، ونختبـر قدراتنا على الصبـر والتحمل داخل زنازن المنــازل والبيوتات في إطار الحجر الصحي … فيروس تاجي “مجهري” فرض علينا التوقــف الاضطراري كشرطي مـرور في إطار مراقبة روتينية للوثائـق، وفي توقفنـا، اكتشفنــا “ماهية الحرية” التي بشر بها فلاسفة الأنوار و درسناهـا في مقررات الفلسفـة، ونحـن نعاني بمستويات ودرجات مختلفة داخل المنازل والبيوتات التزامـا بالحجر الصحـي، وأتاح لنا مساحة رحبـة، لنـدرك تمام الإدراك أن الحياة التي ضاقت بنا قبل الجائحة، كم كانت جميلـة و رائعــة، ونقـدر قيمة ما ننعـم به من أمن واستقــرار وطمأنينـة في ظـل وطـن، أدركنا أفرادا وجماعات، أنه الحضــن الطبيعي والبيـت المشتـرك الذي يحمينا من قســاوة التشــرذم وحـرارة الشتـات والملجأ الآمن في لحظات المحن والأزمات، بعدما أغلقـت الحدود الوطنية وأشهرت الدول ســلاح الإغلاق والتقوقـع حول الذات لحماية مواطنيها في حرب حامية الوطيــس ضد خصم “مجهول”…

خصم مجهول، قوى عندنا في المغرب، الإحساس بالانتماء إلى “دولة” مسؤولة قادرة على صناعة القرار وتدبيـر ما تفرضه الظرفية من إجراءات وتدابير وقائية واحترازيــة وتدبيريـة، وقادرة في ذات الآن، على حماية الصحة العامة وتقديــم الدعم والرعاية وفرض هيبة القانون، مقابل ذلك، برزت معالم صـورة مشرقة لمواطن على قدر كبير من المسؤولية، انخــرط بشكل تلقائي في التعبئة الجماعية، سواء تعلق الأمر بما عبر عنـه من انضباط والتـزام، بما صدر عن السلطات العمومية من قرارات وتدابير وقائية واحترازية رغم بعض الاستثناءات (الحجر الصحي، تفهم إغلاق المساجد، تعليق الأنشطة الاقتصادية والخدماتية والحرفية، استعمال الكمامات، احترام مسافات الأمان، التباعد الاجتماعي (الجسدي)، التعقيم … إلخ)، أو بما صدر عنه من حس تضامني غير مسبوق ومن انخراط فيما تفرضه اللحظة، من حملات توعية وتحسيسية، بشكل وضعنا أمام “دولـة” مسؤولة وراعية وحاضنة وحامية، و”مواطن” أبان عن مستوى حميد من الوعي والمسؤولية والانضباط والالتـزام (مع وجود الاستثناء)، وبين الدولة” و”المواطن”، بـرزت معالم “مجتمع مدني” قوي وحي ويقظ، شكل مرآة عاكسة، لما يميزنا من قيم التعاون والتضامن والالتحام في أوقات الشدائد والأزمات.

وإذا قيل أن “الحاجة أم الاختراع”، فإن الحاجة أطلقت العنان للإبــداع المغربي وفرضت الرهان على القدرات والإمكانيات الذاتية في ظل إغـلاق الحدود الوطنية وتقوقع الدول حول الذات، فمن إحداث “صندوق تدبير جائحة كورونا” لتدبير التداعيات الجانبية للأزمة، إلى خلق “توليفة” بين الصحة العسكرية والمدنية لتأهيل المنظومة الصحية الوطنية وتعزيـز قدراتها، ومن تحقيق اكتفاء ذاتي في الكمامات الواقية في لحظة اشتدت فيها حرب الكمامات عبر العالم، إلى تصنيع بعض المستلزمات والأجهزة الطبية، ومن إقبـال غير مسبوق للإدارات على “الرقمنة”، إلى تنزيل مجموعة من البوابات والتطبيقات الإلكترونية لتدبير الأزمة، وكلها مشاهد وغيرها، حاملة للإبــداع المغربي الذي سخر ليس فقط، لحماية الصحة العامة، بل وللإسهام في دعم قدرات البلدان الإفريقية في الحرب ضد كورونا، من خلال المساعدات المهمة التي أرسلت بتعليمات ملكية سامية، للأشقاء الأفارقة، تضمنت مستلزمات طبية من “صنع مغربي” عبارة عن كمامات وأغطية للرأس وسترات طبية ومواد كحولية وأدوية مختلفـة، وهي مشاهد إبداعية، بالقدر ما هي مشرقة وتقوي الإحساس بالأمل في “المغرب الممكن”، بالقدر ما كشفت عن ســوءة “بيئـة سياسية” تتحكم فيها فيروسات التهميش والإقصاء والمحسوبية والزبونية، بشكل يكبح جماح الخلق والإبـداع والابتكار، ويجعل العقل المغربي معطلا إلى أجل غير مسمى، مقابل الإقبال “غير المفهوم” على صناع العبث والتفاهة والسخافة والانحطـاط، في وضعية مجتمعية تراجع فيها العلماء والمفكرون والباحثون، وحضر فيها من يتقن رقصـة التفاهة ويجيد معزوفة السخافة، جعلت من التافهين والعابثين، نجوما “فوق العادة” تصوب نحوهم عدسات الكاميرا والميكروفونات، فكم من تافه حوله “الإعــلام التافه” إلى نجم ساطــع، وكم من “سياسي عابث” يتحكم في المصير والقرار، بعيدا كل البعـد عن آليات المسؤولية والمحاسبة والعقاب، وكم من “عالم” وكم من “مفكر” وكم من “مثقف” وكم من “مهندس” وكم من “بروفيسور” وكم من “مخترع” وكم من مبـدع، يذبل في صمت، تحت أشعة التفاهة والعبث والانحطـاط …

هي إذن “رؤية” في زمن الجائحة، ما كان لها أن تتشكل عبر كلمات وسطور رصعت قـلادة هذا المقال، و “تأمـلات ذاتية” عاكسة لوجهات نظر ومواقف وخلاصات، ما كان لها أن تطفـو على السطـح، لولا المشاكس “كوفيـد” الذي بالقدر ما أخرج إلى العلن، ما نتملكه من قيم وطنيـة مشتركة، أحيت فينا “روح المواطنة”، بالقدر ما كشف بجرأة عن ســوءة “السياسات العمومية” منذ عقود خلت، والتي كرست منظومات صحية وتعليمية واجتماعية على درجات متفاوتة من الضعف والمحدودية والهشاشة، ولأن “وراء كل نقمة نعمة” كما يقال، فالجائحة “الكوفيديـة”، تفرض علينا استخـلاص الدروس والعبر بروح مواطنة بعيدة عن الحسابات السياسوية الضيقة، لمواجهة المستقبل برؤية رصينة ومتبصـرة، تستوعب الآن قبل الغد، أن عالم “ما بعد كوفيد”، لابد أن يتأسـس على دولة “حاضنة” و”راعية” و”حكومة” معبرة عن نبض الشعب، ومنظومة صحية وتعليمية ناجعة، تتمتع بكل شـروط الدعم والتحفيز، و”رعاية اجتماعية” فاعلة، تقطـع مع مفردات البؤس والفقر والهشاشة، و”بحث علمي” يتيح فرص التفكير والتأمل وتقديم الحلول والبدائـل، ومنظومة اقتصادية “مستقلة”، و”مواطن” على درجة من الوعي والمسؤولية والانضباط والالتــزام، و”إعلام” مهني حقيقي، يسهم في بناء الوطن ويكرس ثقافة الإبداع والرقي والتميز والجمال، و”بيئة سياسية” تتحقق معها غايات دولة الحـق والقانون والقطع مع الريع ومحاربة الفساد، وربط المسؤولية بالمحاسبة وتكريــس ثقافة عدم الإفـلات من العقـاب، وقبل هذا وذاك، إعادة الاعتبـار لمن يساهم في بناء الإنســان (نساء ورجال التعليم)، لأن “الرهان على المستقبل” يقتضي “الرهان على الإنسـان” الذي يتملك أدوات حب ورعاية وحماية وبناء الوطـن …

فشكرا جزيـلا “عزيزي كوفيـد”، لأنك منحتنا فرصة من ذهب، لندرك حقيقتنا ونعرف واقعنا وما يعتريه من مشاهد التواضع والتميز.. شكرا، لأنك سمحت لنا بالانتباه إلى صحتنا وندرك كل الإدراك أن “الصحة تـاج فوق رؤوس الأصحاء، لا يراه إلا المرضى”، وأن المستقبل لا يمكن بنـاؤه إلا بأجيال سليمة معافة صحيا ومعرفيا وقيميا.. شكرا، لأنك فرضت علينا التموقع في صلب جائحـة عالمية، مكنتنا من اختبار قدراتنا في الصبر والتحمل والالتزام بسلطة القانــون، وإدراك ماهية الحرية والأمن والاستقرار والحياة .. شكرا، لأنك كنت عادلا ومنصفا، ولم تعترف بقوة ولا غطرسة ولا جبروت .. شكرا، لأنك غيرت النظـرة للعالم الذي زاغ عن سكة القيم الإنسانية المشتركـة .. شكرا جزيلا عزيزي “كوفيـد”، والآن يمكنك الرحيل، فقد سئمنا من الترقب وضقنا ذرعـا من الخوف والتوجس والانتظار، حتى يتسنى لنا التقاط النفس والوقوف من جديد ونكمل رحلة المسير، وهذه المرة، بصـدق ورزانة ومسؤولية والتزام وانضباط .. شكرا عزيزي “كوفيد” … لن ينسـاك العالم أبــدا … شكرا جزيلا “كوفيـد “…

[email protected]

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى