فن وثقافةفي الواجهة

الهايم .. وسينما الهواء الطلق بالمغرب..

isjc

* عبد السلام انويكًة

  أي جدلٍ كائنٍ وممكن بين ما هو مركز وجهاتٍ في الدراما المغربية؟، وأي التفات ينبغي بين فعل هذه الأخيرة والمحلي من المجال؟، حيث غنى وتباين الموارد من إنسان وطبيعة وتعبير وشواهد وتجارب ومواهب…؟ وهل في أرشيف دراما بلادنا ما يحيل على انفتاحها بما يُعَبِّر  عن زمن المغرب وانسانيته ومجاله ويسمح بقراءة وتقييمٍ ومقارنةٍ وتثمينٍ واستشراف؟. وهل مركزية الدراما المغربية هي بعلاقات مع المحلي، من تصوير واخراج ونصوص وقرب فاعلين ونوعية مهارات وقدرات وتواصل وتعاقد..؟،وأية حدودِ وتناولٍ لِما هو قصير وطويل وكم ونوع وهواية واحتراف في عمل دراما بلادنا، ضمن تفاعل وإنصات لمِا هو رافع محلي من موارد وانسان وتراث..؟. 

  بل وأية تجاربٍ تُسجل لفائدة ريبرتوار الدراما المغربية وتاريخها في هذا الاطار؟، وأي راهنٍ وتأسيسٍ وإغناءٍ وتعميقٍ وتقاسم..للكائن الدرامي جَدلاً، لجعل دراما المغاربة بما ينبغي مما هو شافٍ من امتدادٍ وتكامل وانفتاح وتأمل واستثمارٍ واستشراف؟، في أفق تناغم تفاعلها مع رهانات البلاد وتطلعاتها، تماشياً مع رهانات مناظرة الرباط الوطنية اكتوبر 2012، التي بقدر تأكيدها على قيمة وأهمية تعدد ملتقياتنا السينمائية هنا وهناك، وما باتت عليه من جذب وصدى اقليمي وطني ودولي، بقدر ما يفرضه واقع حالها من مواكبة وتنمية ضماناً لاستمراريتها وتجويداً لأدائها، ومن أهمية انتقال الى النوع ضمن هوية وطن وانفتاح على ثقافاتٍ. أسئلة وغيرها تروم ما تزخر به البلاد من موارد وقدرات وتجارب وعمل درامي، وما ينبغي الالتفات اليه في زمن تدفق قيم ورقميات وعولمة، ولِما ينبغي اشراكه أيضاً من دراما مغربية محلية رافعة تجويداً للمجال وتطويره ومهننته.

   وحول المحلي في الدراما المغربية مع ما للأمر من مرتكز وآليات تجمع بين سلطة إرث وتقنيات وموارد اشتغال هنا وهناك، وعلى أساس طبيعة تراكمات بلادنا منذ ستينات القرن الماضي تحديداً، وفضلاً عما هو تيمة واتجاه وقيمة وابداع واشعاع…على امتداد حوالي نصف قرن. يحق السؤال حول نماذج الاشتغال الدرامي، التي قد تكون استثمرت بما هو شافٍ رافعٍ ومجودٍ لِما هو محلي من قدرات وتجارب وتراث وموارد طبيعة، بمثابة استوديوهات مفتوحة بتركيب رفيع. ويحق السؤال أيضاً حول نماذج فعل الدراما المغربية التي قد تكون تأسست على المحلي من تجارب ونصوص وموارد وغيرها، بل ويحق سؤال المهتم والمتتبع والفاعل الدرامي، حول العلاقة بين المسرحي والسينمائي المحلي في هذه النماذج، ودرجة قدرتها على نقل تيمتها وشخوصها وإخراجها ونصوصها وحكاياتها وايقاعها وأدائها وذوقها، أيضاً هويتها وإرثها وبنية وتميز وتفرد مشاهد مجالها وفرجتها السينمائية الى ما هو وطني ودولي.  

   وبقدر ما هناك من صعوبة في تحديد بداية حقيقية للدراما المغربية منهجياً ومفاهيمياً،- الأمر يهم مسارها وتحولاتها ومكانتها وإسهامها- . بقدر ما يُطرح حول طبيعة تحليل وتفكيك خطاب درامي مغربي من قِبل نقاد، وحول غياب تناول ما يسمح بعبور هذا الخطاب الى المتلقي، كذا ما يتعلق بأشكال مقاربة لنقاط قوة وضعف ونموذج خطاب درامي وليس خطاب ابداع، مع ما هناك من تباين مفاهيمي بين المكونين سواء كان شأن الدراما وطنياً أو محلياً. 

   ولا شك أن التراثي في جميع تجلياته ومعه رمزية تحولات وتفاعلات المجتمع المغربي…هو مجال رافع لعمل الدراما من خلال محاكاةٍ وسؤالٍ وبحث… في اطار علاقة زمن بواقع وانسان. وبقدر أهمية جدل الدراما والواقع بقدر ما هي مدعوة للاجابة عن سؤال وظيفيتها، وكيفية خدمتها لهذا الواقع باستمرار مع ما يتقاسمه من ظواهر انسانية واجتماعية وثقافية. ونعتقد أن التراث في نصوص دراما بلادنا هو بقضايا عدة ومتداخلة، مساحة هامة منها لا تزال خارج ضوء الفاعلين في حقل النقد الى حد ما. وعلى أساس ما يزخر به من مكامن للتراث المغربي قوة وسلطة في عمل الدراما بشكل يجعلها أكثر امتداداً وتعبيراً وإحالة على تحولات ومتغيرات برمزية عالية، ولعل الارث المادي واللامادي في الدراما المغربية هو بتجليات فيها زمن وانسان ومكان..، ما ينبغي موضعته ابداعياً حتى تكون هذه الدراما بنية بإنتاج واقبال واعتبار وفكر وهوية وليس مجرد أحداث. 

   وما أحوجنا لتحصين إرثنا من خلال ثقافة صورة لمزيد من هويةٍ وتماسكٍ وتناغمٍ محلي وكوني، وعياً بما بات لتراث الشعوب من رمزية حضارية في زمن عولمة تقنية وفكرية، ويبدو أنه مقابل سعة مخزوننا التراثي الوطني، هناك محدودية آلياتِ ابداعٍ من شأنها جعل تراثنا وظيفياً بأدوار اجتماعية وانمائية واقتصادية… والدراما المغربية هي بموارد قادرة على إغناء حياة انسان بتجارب انسان وتجارب مجتمع بتجارب مجتمع، وعياً بما لها من تواصل وقيم وتفاعلات ومعاني وبما للصورة من حركية أكثر تأثيراً على الأفكار، وبما يحتويه تراثنا من ذخيرة خصبة للدراما من شأن رمزيته إغناء تمثلات إخراجٍ ومعالمَ أفلامٍ بقيمة فكرٍ وفرجةٍ معاً. 

  كل هذا وذاك من الاشارة حول الدراما المغربية تيمةً وانفتاحاً على المجال والهوية والتراث والنماذج، ارتأيناه مدخلاً لتسليط بعض الضوء على تجربة درامية، تقاسماً لرأي وهاجس تفاعل وتنوير وبادرة وجهدٍ وفسيفساءِ تاريخٍ فني وخبرة وإرادة. ولعله سياق نستحضر فيه ما تساءل عنه يوماً ذ. أحمد سيجلماسي، عندما عَرَّج عن غياب إلتفاتِ المخرجين لطاقات ما وراء المركز  الابداعية الدرامية، مؤكداً على ما يميز أعمال الدراما بعدد من الجهات من قدرة تشخيص كما في “الهايم” لمخرجه نور الدين بن كيران، الذي يملك طاقة فعلٍ درامي ظهر جلياً فيما أسند له من أدوار في أعمال عدة تلفزيونية وسينمائية، لعلها من مجموعة روافد جعلته بما هو عليه من تجارب ومسار وخبرة وموقع فني رفيع وكاريزما درامية. 

   و”الهايم” The Roamer هذا العمل الدرامي الذي أخرجه الفنان نور الدين بنكيران، نص معانيه  تخص ما دار في قلعة بجزيرة في عالم نسيان ومقبرة غرباء، حيث موت انسانية انسان واحتضار ضمير تاركاً خيط دخان لا غير، هناك حيث طفولة في بحث عن ذاكرة فقدها هائم في متاهات دمار وخراب، في زمن تُنوسِي فيه نور وحق وعدل وسلام. وهذا الهائم الغريب اختار اللاعودةٍ لرذيلة وخطيئة لترعرع في زمن ومكان يدرك معنى أمل الانسان وحبه وسكينته. ومن هنا أشباح بلا رحمة طاردته وعذبته ودفنته فقتلت فيه طفولة وجسداً مكبلا بأغلال، دهست قبره وهي ترقص من شدة بهجتها باغتيال ذاكرة وسط زحام. لكن تناست أشباح زمن أن الهائم حالم عائد لا محالة لعالم كله حب وسلام، عائد لإحياء ضمير واعطاء الإنسانية معناها الحقيقي التي من أجلها ولد وكان الإنسان انساناً. 

   ونص”الهايم” الدرامي في فلسفة حياةٍ نوع من تيهٍ ذاتي في دروب خوف وعنف.. برغبة في تضحية بثوابت تنشئة، فكان هائم وتهديد عيش بارتماء في حضن أشرار طالما تلذذوا بتعذيب ضعفاء بإبعادهم وقتل إنسانية الإنسان فيهم. انما لما حرك ضمير الهايم وجدانه قرر ما قرر من النأي عن الخطيئة والرذيلة، ليغتسل روحياً وذاتياً بماء شلال إعلانا منه عن ابتعادٍ كلي عن الشر. وليرحل عن أهل وديار في عشق لنور وعدل وخير وسلام، تائهاً في بحث عن كائن وممكن وإنسانية انسان، لكن رجال القلعة طاردوه عذبوه ففقد الهائم ذاكرته وماضيه. وعلى ايقاع رحلة عذابه كان الهايم بضمير يرفقه وذاكرة تنير طريقه الى حب وتعايش وجمال، وبعيداً في خلوته بكهف هناك لما كان يحتضر نادى على من نادى ليفصح عما بداخله ويقول: أنه تذكر ضميره وأنه لم يمت بل لايزال حياً ببذور خير للإنسان ولعالم تتقاسمه قيم محبة ونور وعدل سلام…

   وفيلم “الهايم” بنصه الدرامي الرمزي هذا، توزع تصويره على مواقع عدة من جوار تازة حيث أدغال غابةٍ وعلو وشموخٍ جبل وثلوج وشلالاتٍ وأودية، اضافة لمواقع بتميز عمارة تاريخية أصيلة ودلالات تراثية ووقائعية كما قصبة امسون الاسماعيلية غير بعيد عن تازة شرقاً. ويُسجل لـ”الهايم” تصوير فصوله بنقاط دقيقة الانتقاء أكثر انسجاماً مع نص وأدوار، فضلاً عما طبع تشخيصه من حماس ومجازفة. مع أهمية الاشارة لذاتية انتاج في غياب دعم أية جهة للعمل، الذي هو بمساحتين زمنيتين في العرض الأولى طويلة بحوالي ساعة والثانية قصيرة بثلث ساعة. اللهم أعمال دراما يوجد بصددها مخرجنا والتي ستكون مدعمة من قِبل المركز السينمائي المغربي.    

  وتجربة “الهايم” الدرامية وما تحتويه من رمزية فنية انسانية دقيقة، أبانت عن كلفة مادية ولا مادية وعن طاقات شابة بتميز مواهب وقدرة تشخيص واجراء عالٍ تقاسمته فصول “الهايم”، ما جعل أدوار هؤلاء بأداء مدهش في عرض أول افتتاحي خلال دورة مهرجان سينما الهواء الطلق الأخيرة، الذي ينظمه نادي المسرح والسينما ودأب عليه جمهور تازة والمغرب خلال ربيع كل سنة. وكانت دورة هذا الموعد الأخيرة قد حضرتها أسماء سينمائية مغربية رفيعة كفاءة وفكراً ووعياً ومهنية ومصداقية ابداعية، كما فاطمة بوبكًدي مخرجة سلسلة”رمانة وبرطال”، التي تمكنت من جعل تراث البلاد وجهة لفرجة جاذبة على نطاق واسع غير مسبوق بالمغرب والخارج، ناهيك عن نقاد سينمائيين ممن هم بحكامة في قراءة النصوص وتحليليها. فكان جَمْع وفُرجة وتأمل في سينما “الهائم” وكانت دهشة وشهادة واكتشاف واعتبار ما هي عليه المدينة من تجارب. 

   مع أهمية الاشارة الى أن”الهايم” هذا العمل الدرامي بالعربية الفصحى، الذي أثار ما أثار من رأي ونقاش وثناء وتقدير وجوائز هنا وهناك في ملتقيات ومهرجانات بعدد من المدن المغربية. تطلب حوالي السنتين من الاعداد والتفكير وعياً بحجم المسؤولية وسلطة متفرج ومتتبع ومتلقي ليس سهلا على المخرج بلوغ ثقته وتجاوبه. وفيلم”الهايم” هو من بطولة نور الدين بن كيران- سمية فائز- حسن فائز- خالد بقراوي- عبد الرحيم وهاب- عزيزة امزيان- ايمان القرموني- ايمن العلوي- جلال الدين مطالسي- رضا الغنامي- عبد اللطيف جزاري. تمثيل: كريم اليابوري- ليلى مزيان مطالسي- اسماعيل اليوسفي- عبد الرحمن زروال- بدر بن داود- ماجدولين كحيحلي- هند صبحي- بلال امزور- أمين جلولي- اطفال جمعية أزداد. وهو من قصة وسيناريو واخراج نور الدين بن كيران وتصوير  عبد الرحيم وهاب ويونس رطيبي وديكور واكسسوار رشيد عليلي.

  يُذكر أن مخرج”الهايم” العضو في الفدرالية الدولية للممثلين والنقابة المغربية لمهني الفنون الدرامية، انفتح على عالم التمثيل مع بداية سبعينات القرن الماضي عبر عشرات الأعمال المسرحية والتلفزية والسينمائية مع عشرات كبار المخرجين مغاربة وأجانب، فضلا عن اسهاماته في مواعيد دولية مسرحية ودرامية بتونس والأردن ومصر والعراق وغيرها. وللاشارة فقد فاز فيلم الهايم بالجائزة الكبرى للملتقى الوطني السادس”أيام فاس للتواصل السينمائي” في دورته الأخيرة قبل بضعة شهور، ضمن غمار تنافسي شمل أفلام“مخاض” و”أحلام” للحمداوي(وجدة) و”فحم ودم”، و”ذاكرة النسيان” لأميمة حيدا (الرباط)، و”برقيمة مفهومة” لياسين سميح(آسفي) و”آخر صورة” لفيصل الحليمي(طنجة) و”ليس أبيض وليس أسود” لمنير علوان (العيون)، و”مساج” لمحمد الشباني(مراكش) و”افتحوا النوافذ” لنبيل جوهر (سطات) وغيرها.

   ونور الدين بن كيران مخرج “الهايم”، هذا عنوان ومقام وقامة رفيعة بدرجة سمو وطاقة وكفاية درامية شكلا وتجربة لعقود من الزمن، وهو أيضاً بمؤهلات ومستوى تشخيـص رفيع مستفيداً من خبرة وجَمْعٍ بين تأليف مسـرحي واخراج وكتابةِ قصةٍ وسناريو، كذا ما كان عليه من زخمٍ مسرحي ودرامي لِما يقرب من نصف قرن، كل هذا وذاك من تاريخٍ رَجُلٍ ورغبة ومبادرة وشجاعة أدبية كان وراء ورشة درامية أقدم عليها خلال السنوات الأخيرة بعد عقود من الاقتصار على ما هو مسرحي فقط، ورشة يُعد فيلم”الهايم” باكورة انتاجها نصاً وسيناريو واخراج …

   يبقى أن لموارد الجهات أو المحلي بشكل أدق، قدرات من شأنها اغناء وعاء الدراما المغربية على هذا المستوى أو ذاك، وتقوية تنافسية تجويدٍ في المجال بما يحتاجه من بحث وتنقيب ونصوص وابداع… في اطار ورش جهوية متقدمة واعدة رافعة لِما هو وطني فنياً وثقافياً. 

    ونعتقد أنه ليس سهلا القول بكون دراما بلدنا هي بخير وعلى خير فقط لأن هناك تقنيات وتقنيون وقدرة إدارة تقنيات، فقد يكون هذا وعي بفهمٍ غير مقنع ولا شافٍ على أساس أن ما هو تقني كيفما كان حجم وشأن طاقته لا يمكن التعويل عليه لوحده، وأن السؤال هو أين هي خصوصية المغرب والمغاربة في الابداع والمبدع الدرامي المغربي؟ وأين هي قضايا المجتمع المغربي وهوية المغاربة؟ وأين هي البصمة المغربية بفهم ولغة الباحثين والدارسين والاقتصاديين الانمائيين؟ وحتى إذا افترضنا جدلاً أن تراث البلاد وتاريخها وسسيولوجيتها وانسانها، هو بحضور في فعل الدراما المغربية وأسئلتها، فكيف يتم تقديم ذلك وبأية وظيفية لبلاد وعباد؟. 

  مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى