في الواجهةكتاب السفير

ممر تازة خلال العصر الوسيط .. رمزية مجال وزمان وانسان

isjc

السفير 24

روح خاصة تطبع تاريخ مدن المغرب العتيقة، وروح خاصة أيضاً تلك التي يستمدها تاريخ هذه المدن من مجريات أحداث ووقائع وتفاعلات عدة ومتداخلة. وما أكثر مدننا العتيقة التي تستحق إلتفاتا وإنصاتا من قِبل باحثين ومؤرخين، وخاصة أبناءها من هؤلاء ممن هم أدرى بمعالمها ورجالاتها وعمقها الرمزي ودروبها وتماساتها الدفينة.

ولعل من مدن المغرب الأصيلة نجد “تازة” هناك في سفح جبل حيث الأطلس المتوسط ومقدمة الريف، مدينة ارتبط زمنها منذ القدم بموقع وممر شهير باسمها، هو بمثابة نقطة وصل بين شرق البلاد وغربها لكل مما هو طبيعي وبشري وقْع فيه منذ قرون. ولا شك أن المهتم بتاريخ مدن المغرب العتيقة يجعله اهتمامه مُقتحِماً لتفاعلات غير منتهية، بصدى يتردد بعيداً في مجالات متأثرة بما أفرزته علاقات ووقائع في مساراتها على منحى تاريخ البلاد العام.

والحديث عن ممر تازة لا يستقيم دون رجوع لِما ارتبط وحام حول علاقته بمارين عبر الزمن. وعليه، فإن تناول تاريخ المدينة يرتبط بطبيعة مجال ومحورية موقع لكل قادم إليه أو متوجه منه. فقد انتصبت تازة بجغرافيتها سداً منيعاً لكل محاولات تطويع، وجعلها مكونها القبلي بردوده في علاقته بالسلطة تنتزي في مجالها، دون جعل بناء كيانٍ شأناً لها كما قبائل “صنهاجة – مصمودة- بنو مرين..” اللواتي كان لها سبق بناء أحلاف وإعلاء عصبية أمام الكل. بهذه الاشارات التاريخية حول تازة استهل الدكتور الحسن الغرايب الباحث في تاريخ المغرب الوسيط بفاس، تقديما لمؤلف حول تاريخ تازة صدر حديثاً للأستاذ عبد السلام انويكًة عن دار ابي رقراق للطباعة والنشر بالرباط “تازة.. صفحات من تاريخ مدينة” ضمن طبعة أولى. مؤلف حول تاريخ تازة خلال العصرين الوسيط والحديث بحوالي ثلاثمائة وثلاثين صفحة، جاء بدعم من وزارة الثقافة بعدما أجازت طبعه لجنة علمية ضمنها مؤرخين متميزين.

إن المؤلَّف يقدم المدينة- يضيف الدكتور الحسن الغرايب- في عز حدثها التاريخي ضمن مسار دول مغرب العصر الوسيط والحديث، مستحضراً عنصر الجغرافيا كموجه للتاريخ وصانع لتدافعات غير منتهية في امتداد تازة خلال فترات ازدهار وتقلصه إلى حدود أسوارها أثناء عدم استقرار. وأن التناول المنهجي لموضوع بهذا التشابك جعل من تتالي فصول المؤلَّف، أمراً في غاية المتعة وسبر غور تراث محلي. ليتبين أن الانتقال مما هو خاص الى مشترك بإعطائه بعده العميق، عبر نبش بيوغرافيات أعلام المدن المغربية التراثية وأحوازها، يجعل من إعادة كتابة تاريخ المدن العتيقة أمراً ملحاً لإماطة اللثام عما هو خفي من حوادث ذات صدى عبر فترات.

وقد أورد الأستاذ عبد السلام انويكًة في توطئة مؤلفه حول تازة، أن الاصدار يشكل لحظة انصات لزمن مدينة زاخرة بوقائع ومعالم وتفاعلات، مشيراً الى أن تاريخ تازة هو تاريخ إنسانية إنسان وتنوع وتفاعل وتكامل، وأن الوعي به كإرث رمزي يقتضي استثماره كموارد زمن في بناء حاضرها ومستقبلها، مؤكداً أن مدن المغرب العتيقة لا تزال بحاجة لأبحاث لتدوين ما لم يدون بعد، وأنه على أهمية ما تراكم فتاريخ كثير منها لا يزال مجهولاً خاصة لما يتعلق الأمر بفترة العصر الوسيط والحديث ناهيك عن القديم. مضيفاً أنه بقدر ما لايزال ماضي عدد من المدن بمعرفة غير شافية، بقدر ما كانت هذه الأخيرة بأدوار هامة جمعت بين ما هو سياسي واقتصادي وفكري خلال هذه الفترة كزمن جدير بعمل البحث والتمحيص والكشف عن عدد من التجليات.

ويذكر الأستاذ عبد السلام انويكًة أن بداية علاقته وانفتاحه على زمن تازة وعمقها التاريخي، متأثراً بثلة من أبناء المدينة وما كانوا عليه من انشغال بهذا المجال، يعود لتسعينات القرن الماضي مع ما رافق ذلك من سؤال وتفاعل وترافع وجمع مادة. مع ما تأسس لديه من قناعة حول أهمية البحث والتأليف وفق وعي بالمحلي، تماشياً مع ما توجه اليه عدد من المهتمين والباحثين لتسجيل محاسن وخواص وتميز مدن نشأتهم، بذكرهم لأرثها وتراثها ومآثرها وفضلها وعلماءها وأعلامها اعتزازاً منهم بموطنهم وذاكرتهم.

ومن جملة ما جاء في مقدمة الباحث، ما أورده حول كون الذي يفقه في معنى التاريخ وعلاقته بالمدن من خلال مواقعها، يجد نفسه بدهشة وهو يتأمل مدينة عالقة بجبل الأطلس المتوسط، مطلة من شرفتها على ممر شهير حيث جوانب هامة ومتشعبة من زمن المغرب. تلك هي تازة – يقول- التي توحي بعمر زمني ووجود تاريخي وعظمة معالم وعلامات، بقدر ما البحث فيها عمل مشوق بقدر ما للموضع إنسان وخواص وتفاعلات شكلت مجتمعة روح مكان. وقد جاء كتاب «تازة.. صفحات من تاريخ مدينة” للأستاذ عبد السلام إنويك مرتكزاً على ببليوغرافي غنية ومتنوعة باللغتين العربية والفرنسية بحوالي أربعمائة مصدر ومرجع، مع تأكيد حول مصادر المعلومة التاريخية بالنسبة لمدينة وموقع ضارب في القدم، على ما يمكن أن تسهم به الدراسات الأيديولوجية التي لا تزال محدودة جداً لدجة العدم لإيجاد ما هو دقيق من أجوبة حول نقاط عدة عالقة تخص المجال والانسان والزمن، ناهيك عما هو مسجل من غياب وثائق الأسر التأزية ودفاتر الأحباس والمخطوطات الخاصة بالمنطقة وغيرها.

ويذكر الباحث عبد السلام انويكة الذي انفتح في عمله “تازة ..صفحات من تاريخ مدينة” على فترة العصر الوسيط والحديث، أن عمله يأتي تجاوباً مع نداء العلامة عبد الهادي التازي رحمه الله الذي قال يوماً : أن تازة ليست فقط مدينة بل رباط جهاد تحطمت على أبوابه سائر المناورات، كذا مركز عِلْمٍ ساهم في صنع رجال الفكر ورمزاً لمدرسة صنعت سياسيين ودبلوماسيين، مدينة بتاريخ حافل بمواقف شريفة اتخذها علماءها حماية وحدة المغرب الروحية المتجلية في وحدة المذهب والعقيدة.. مشيراً الى أن على أبناء تازة أن يقوموا بكتابة تاريخها في شتى الميادين مؤكداً أن عليهم وحدهم تقع تبعة التعريف بها.

وقد اتخذ كتاب “تازة.. صفحات من تاريخ مدينة” في تحجيب زمنه عصر بني مرين مَفصلاً لِما طبع هذه الفترة من اشعاع، ومن هنا جاء الكتاب موزعاً بين حدثين مؤسسين ومغيرين الأول يتعلق بنشأة دولة الأدارسة وبيعة مولاي ادريس الأول، أما الثاني فهو الذي ارتبط ببداية الحداثة المغربية نهاية القرن الثامن عشر على عهد السلطان محمد بن عبد الله. وجاء الكتاب بمحاور أربعة، خصص الأول منها لمِا هو فزيائي شمل موضع المدينة وجوارها، أما فنتناول بعض وقائع المنطقة وتطوراتها خلال العصر الوسيط والحديث منذ الأدارسة مروراً بالمرابطين والموحدين والمرنيين والنطاسيين والسعديين ثم العلويين. أما ثالث محاور الكتاب فقد توجه لرصد عمارة وتعمير وسياقات تاريخية ذات صلة من خلال تمييز بين الديني والعلمي والاجتماعي والدفاعي. ليستحضر المؤلف في محور أخير بعض أعلام تازة ممن كانوا بشأن في أمر دين وفقه وتصوف وسياسة ومجتمع.

ويذكر المؤلِّف أن الكتاب توجهَ بعنايته لابراز جوانب من تاريخ تازة خلال العصر الوسيط والحديث، بناء على ما توفر من مرتكز ومادة علمية في غياب تأليف خاص بالمدينة خلال هذه الفترة، وحتى إن وجد فهو في حكم المجهول كمؤلَّف” تقريب المفازة الى تاريخ تازة”. مما قد يكون وراء ضياع كثير من أخبار ووقائع المدينة والمنطقة خلال هذه الفترة، وبالتالي فما تبقى ليس سوى شتات اشارات في مصادر تسمح الى حدما بتكوين فكرة حول مكانة تازة في تاريخ البلاد. مشيراً الى أن تثمين ما هو رمزي تاريخي كان من مقاصد الكتاب الذي يدخل ضمن ما اتجهت اليه عناية عدد من الباحثين والمهتمين بعدد من حواضر البلاد الأصيلة، باعتباره مساراً وورشاً وظيفياً مفتوحاً تجاه ما هو محلي واقليمي وجهوي كرهان ترابي. مؤكداً أن تازة هي بزمن مشرق ومجال وتاريخ فكري وعلمي وسياسي واجتماعي ودفاعي .. وبعمران وأعلام وعلماء وتجليات جمعت بين تميز ونبوغ عبر العصور. لايزال بحاجة ليس فقط لمزيد من البحث والتعريف بل لحسن تدبير وحكامة استثمار باعتباره رأسمالا رمزياً للمنطقة بجعل موارد الزمن في قلب النماء وتدبير المجال.

وكتاب”تازة صفحات من تاريخ مدينة” للأستاذ عبد السلام انويكًة، يطرح سؤال درجة الوعي بتراث وتاريخ المدينة المغربية الأصيلة وحمولتها الحضارية، وسؤال درجة حماية ما هو ذاكرة وهوية في الزمن المحلي، وسؤال ما هو غنى ونماء قائم ومؤسَّسٍ على عبق وشواهد وتحف الماضي. ولاشك أن المكتبة المحلية – يقول المؤلف- باتت منتعشة بفضل ما تراكم من نصوص هي نتاج جهد ثلة من أبناء تازة الى حين مزيد من البحث والاضافة، مؤكداً أن للتاريخ فرص سانحة وله أخرى أيضاً تخص كتابته، وكونه مقيد بالكتابة تأكيد لهذا وذاك وخاصة عندما تلتقي حقيقة كتابة بحقيقة وقائع وشواهد ويلتقي ما هو تاريخ بما هو وجود ووجدان. ما يظهر من خلال صورة غلاف اختار لها المؤلف قلب أجمل تحف تازة، ثريا جامع أعظم عتيق يعود الى فترة دولة الموحدين والمرينيين حيث روعة ابداعٍ وجمال هندسةٍ وزخرفةٍ وعبقرية مغربي صانع.

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى