في الواجهةكتاب السفير

“اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي” وسؤال الأرشيف

isjc

* بقلم : عزيز لعويسي

قبل حوالي سنة (نونبر 2019) عين جلالة الملك محمد السادس اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد، كهيأة استشارية ذات مهمة محددة في الزمن، ضمت في تركيبتها إضافة إلى الرئيس “شكيب بن موسى”، ما مجموعه 35 عضـوا، روعي فيها كما ورد في خطاب الذكرى العشرينية لعيد العرش المجيد ” مختلف التخصصات المعرفية، والروافد الفكرية، من كفاءات وطنية في القطاعين العام والخاص، تتوفر فيها معايير الخبرة والتجرد، والقدرة على فهم نبض المجتمع وانتظاراته، واستحضار المصلحة الوطنية العليا”، وهي مهمة تروم في شموليتها إلى وضع خلاصات وتوصيات من شأنها التأسيس لنموذج تنموي جديد، يصحح مسارات الممارسة التنموية وما تخللها عبر سنوات من أعطاب، ويدفع في اتجاه كسب رهان مرحلة “المسؤولية” و”الإقلاع الشامل”، وفق منهجية عمل ثلاثية الأبعاد “تقويمية” و”استباقية” و”استشرافية” كما أشار الملك إلى ذلك في خطاب الذكرى 66 لذكرى ثورة الملك والشعب، وقد كان من المقرر أن تقدم اللجنة خلاصاتها وتوصياتها أمام أنظار الملك محمد السادس غضون الصيف الماضي، لكن وبموافقة ملكية، تم تمديد المهلة مدة ستة أشهر إضافية، قصد رفع تقريرها النهائي إلى نظره في أجل أقصاه شهر يناير 2021، وهي مدة كان لابد منها، لإتاحة مساحة زمنية كافية، تسمح بالمزيد من البحث والتأمل في الآثار المترتبة عن جائحة كورونا، التي تفرض استنباط مجموعة من الدروس والعبر، بشكل يسمح بالمضي قدما نحو المستقبل بثقة ورصانة وثبات.

ودون الخوض المبكر في التقرير النهائي المرتقب، أو النبـش في حفريات ما تكون اللجنة قد توصلت إليه من خلاصات وتوصيات تنموية على بعد أسابيـع قليلة من انتهاء مهمتها الاستشارية، لامناص من التأكيد أن هذه اللجنة التنموية ومنذ الانطلاقة الرسمية لمهمتها غضون شهر نونبر الماضي، وضعت ولا شك في ذلك، خطة أو استراتيجية عمل متعددة المستويات، بشكل يتيح لأعضائها الاشتغال في ظروف مهنية رصينة ذات أهـداف واضحة المعالم، تقطع مع كل ممارسات العشوائية والارتجال، وبالنظر إلى خصوصيات المفهوم (التنمية) من حيث ارتباطه بعدد من الحقول والمجالات المعرفية (سياسة، اقتصاد، مجتمع، ثقافة، بيئة …) ومن حيث تعدد المقاربات المعتمدة في دراسته (اقتصادية، اجتماعية، ديمغرافية، سياسية، بيئية، ثقافية، سوسيواقتصادية …)، كان لابد من الجنوح نحو الجوانب الأكاديمية الصرفة ذات الصلة بالتنمية بأبعادها المختلفة، وفي ذات الآن، الرهان على الميــدان /الواقع لفهم الحقيقة كما هي، وإدراك حجم الخصاص وفهم نبـض المجتمع وانتظاراته وتطلعاته، في إطار من الموضوعية والتجرد والحقيقة والمكاشفة واستحضار المصلحة الوطنية العليا، وذلك عبر آليات الاجتماعات والندوات واللقاءات المتعددة المستويات مع الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين وفعاليات المجتمع المدني، والزيارات الميدانيـة والتواصل المباشر مع الساكنة والإصغاء إلى همومها ومشكلاتها وانتظاراتها.

وكلها تصرفات وتدخلات، لاشك أنها أفرزت ممارسات أرشيفيـة أو منتوجا أرشيفيا (مراسلات، محاضر اجتماع، تقارير، توصيات، إحصائيات، صور…)، مشكلا مرآة عاكسة لعمل اللجنة التنموية منذ انطلاقة مهمتها رسميا غضون شهر نونبر 2019 إلى غاية رفـع تقريرها النهائي إلى الملك بدايـة شهر يناير المقبل، وهو أرشيف سيكون على جانب كبير من الأهمية والثراء، كقيمة “علمية” يمكن استثمار معطياتها وأرقامها لأغراض علمية صرفة، وقيمة “سياسية” عاكسة لطموحات الدولة في الإصلاح وإدراك التنمية الشاملة، وقيمة “تنموية” تسمـح بتشخيص واقع حال التنمية بالمغرب، وما يعتريه من أعطاب وإكراهات، وما تم تقديمه من حلول وبدائل تنمويـة في سبيـل إدراك التنمية الشاملة، وقيمة “حداثيـة” مكرسة لثقافة الشفافية والنزاهة والمصداقية والمسؤولية، تضـع ليس فقط، عمل اللجنة التنموية تحت المجهر من حيث الجودة والفاعلية والنجاعة والرصانة والجرأة والحقيقة، بل أيضا يضـع صورة الدولة في الواجهة من حيث قدرتها على الوضوح والمصداقية مع المواطنين، فيما تقدم عليه من مجهودات تنموية وما تباشره من إصلاحات، وقيمة “استراتيجية”، يمكن التأسيس على نتائجها وخلاصاتها في صناعة القرارات الآنيـة والمستقبلية، وتجويد واقع الممارسة السياسية والتنموية، بشكل يسمح بالمضي قدما نحو المستقبل برؤية متبصرة، وقبل هذا وذاك، هو قيمة “كورونية” إن صح التعبير، لتزامن مهمة اللجنة مع جائحة كورونا التي اجتاحت المغرب كما العالم، وأحدثت حالة من الارتباك في عدد من القطاعات، وغيرت النظرة للكثير من القيم والمفاهيم، وفرضت إعادة النظر في الكثير من الممارسات وترتيب الأولويات، والأرشيف وحده دون غيره، بإمكانه بناء على معطياته وأرقامه، أن يقدم مدى تمكن اللجنة من استخلاص ما أبانت عنه الجائحة من دروس وعبر، ومدى قدرتها على تجويد خلاصاتها وتوصياتها، في ضـوء ما تركته وتتركه الجائحة من آثار وتداعيات جانبية متعددة الزوايا على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية وغيرها.

وعليه وتأسيسا على ما سبق، وفي انتظار أن ترفع تقريرها النهائي إلى نظر الملك محمد السادس في بداية شهر يناير المقبل، فاللجنة الخاصة بالنموذج التنموي مطالبة اليـوم، بحسن العناية بما راكمته من أرشيفات طيلة مهمتها التي امتدت إلى ما يزيد عن السنـة، والتنسيق مع المؤسسة الحاضنة لٍلأرشيف العمومي (أرشيف المغرب) لطلب الخبرة أو المشــورة عند الاقتضـاء، في انتظار تسليم هذا الأرشيف إلى المؤسسة الأرشيفيـة المعنية، على غرار جملة من الهيئات، كما هو الشأن بالنسبـة لأرشيف “هيئة التحكيم المستقلة لتعويض ضحايا الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي” (سلم بتاريخ 24 يوليوز 2017) وأرشيف “هيئة الإنصاف والمصالحة” (سلم بتاريخ 9 دجنبر 2017) في إطار حفظ الذاكرة الجماعية وصون التاريخ الوطني، ونرى أن الغاية لا يمكن حصرها أو اختزالها في حدود إحالة أرشيف اللجنة التنموية على “أرشيف المغرب” بعد انتهاء مهمتها المحدودة في الزمن، بل تتجاوز ذلك، إلى مستـوى “منح الحياة” لهذا الأرشيف الصامت الذي لامناص من استنطاق معطياته ومساءلة أرقامه، ولا حياة ولا قيمة لأي أرشيف، دون إتاحته للعمـوم تكريسا للحق في المعلومة، وذلك وفق المقتضيات والضوابط القانونية ذات الصلة، ودون حضور الجرأة والإرادة من جانب صناع القرار السياسي والإداري، في جعل “الأرشيف” قناة لامحيد عنها لتكريس المزيـد من الحقوق والحريات، وإرساء دعامات الحكامة الرشيدة وملامسة الحداثة وصناعة القرارات الصائبة والناجعة …

ولا يمكن أن ندع الفرصة تمر، ونحن على بعد أيام من “اليوم الوطني للأرشيـف” (30 نونبر)، دون تثمين ما حققته “أرشيف المغرب” تحت إدارة الأستاذ الجامعي والمؤرخ “جامع بيضا” من منجزات ومكاسب رغم عمرها القصير الذي لم يتجاوز بعد عقده الأول، على المستويات القانونية والتنظيمية والعلمية والتواصلية والإشعاعية، وطابعها “الاستراتيجي” الذي منح لها سنـة 2012، يفرض على الدولة، دعم قدراتها، بمدها بالوسائل البشرية والمالية واللوجستية اللازمة، وعلى رأسها التحرك في اتجاه تمكينها من مقر لائق بمواصفات معمارية حديثة، يستجيب لشروط حفظ الأرشيف كما هي متعارف عليها دوليا، ويليـق بها كمؤسسة عمومية استراتيجية، العناية بها، لن تكـون إلا عناية بالذاكرة الجماعية والتاريخ الوطني والهوية المشتركة، وإرادة لتعزيز صرح الحقوق والحريات والمضي قدما نحو الحداثة … ونختم برسالة موجهة إلى رجالات السياسة والفكر والثقافة والإبـداع، بأن يحدوا حدو عدد من المثقفين والمبدعين الذين ائتمنوا “أرشيف المغرب” على أرشيفاتهم الخاصة، إسهاما منهم في صناعة الذاكرة الجماعية بكل تفاصيلها وجزئياتها، كان آخرهم رجل الدولة الكبير المناضل الراحل “عبدالرحمان اليوسفي” رحمـه الله، الذي أوصى قبل رحيلـه، أن تسلم وثائقه التاريخية لأرشيف المغرب وبعض ممتلكاته العينية لمتاحف المغرب، في مبادرة مواطنة لايمكنها وضعها إلا في منزلة “المواطنة الحقة” وخانة “الرقي” و”النبل” و”استحضار الصالح العام” …

[email protected]

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى