كتاب السفير

رحيل قبل الأوان ..(2/1)

isjc

* ذ. عزيز لعويسي

استحضارا ووفاء لروح وذكرى ضحايا 16 ماي …

مرت الذكرى السوداء كما يمر السحاب العابر في براري سماء أغسطس، تاركة وراءها حبات أحزان متناثرة في حقول أمسها البعيد، وأيقظت في حقول ذكراها المهاجرة نيـــران الصدمة القاتلة، تاركة سفينة عمرها الضائـــــع شاردة في مرسى آهاتها الموجعة .. تداعت صروح الأحلام الوردية، وانهدت أبراج الصباح المنتظر على صخرة الحقيقة المرة .. تلاشت حقول الياسمين واستسلمت أزهار البنفســج لشمس الظلام المحرقة، وأصبحت الآمـال المتراقصة سرابـا في صحاري الذكريات البائدة …

رحل “الزوج” قبل الأوان وبدون سابق إعلان، كما رحل “الإبن”، اختطفتهما خفافيش الغدر على حين غفلـة، دون أن يرسما على لوحة خديهـا قبلة الــوداع الأخيرة، اقتنصتهما عناكـب العدم عنــوة .. جرفتهما السيــول الجارفة كما لو كانا قطعة قماش تائهة، وأرمــت بهما في عوالــم اللاعــودة .. مصممة أن تخــرس صوتهما الدافئ إلى الأبـد، أن تنتشلــهما عنـــوة من قاموس الحيـــاة، أن تحولهما إلى رواسب عالقة في أوحـال الذكرى العابرة .. رحــلا قبل الأوان كما رحلت شمـــس ذاك المســاء .. في عنفـــوان الربيــع الزاهر .. في عـز المطـر العابــر ..

اختلت “راجيني” بنفسها في غرفة آهاتها بعيــدة عن العيون المتربصة.. كل شيء عبث به الزمن العابر منذ الليلة السوداء.. ذبل الزهر و جفت العيون الساكنة وأضحى القلب الشارد جمرة في رمــاد الفراق المحرق .. كل شيء يذكرها بزوجها وإبنها الراحلين، .. تقاسيم وجههما.. عيونهما الجذابة كاللـؤلؤ .. نظراتهما المتناثرة كأوراق الهيام.. ضحكتهما المتدفقة بانسياب وعنفوان كالشلال الهائم .. أحلامهما الكاسحة المنسابة كقطرات النـــــدى .. أحاسيسهما الفيحاء كالأريج .. يومياتهما ..آهاتهما.. صرخاتهما .. كل شيء طوته عساكر النسيـــــان وأرمت بــه في زنــازن الذكريات الهاربة .. كل شيء صار في خبر كــــان… وحدها الأجساد المحترقة بنيران العدم تـــــردد ترانيـــم الآهــات .. وحدها القلوب المكتوية بلهب الألم ولوعة الفراق تتقلى في مقلـــة العذاب بعيدة عن عيون العالم …

جلست كعادتها على سريرها الخشبي ..تتأرجح بين مطرقة الوحدة وسندان الفراق المؤلم .. تحتسي فنجان قهوتها المفضلة “موس بلونش” .. تسيطر على بلاط نفسها ملايين من الكلمات .. تاهت بين ثنـــــايــا صمتها الرهيــب، تخترق سكناتهــــا أسئلـة الممكن و اللاممكن .. اللقاء والفراق .. الموت و الحيــــاة .. تتذكر “المكان” و “الزمان” و دموع الأسى لا زالت ترســـم مسيــلات على وجههــا الشـاحب .. الزمان : ليلة الجمعــة 16 مايو 2003 و “المكان” : الدارالبيضاء .. تتذكر بدقــة متناهيــة “الزمان” الذي غيــر مجــرى حياتهــا وأرمـى بها في أوديـــــــــة الوحدة الموحشــة .. وتتذكر”المكان” الذي انطفأت فيه شمعة زوجها وإبنها ..” دار إسبانيــا” .. كان اليوم يوم “جمعة” .. مر كما تمــر الأيام المهاجرة .. لم يكن أحدا يظـن أن حبائـل الوصـال ستنقطـــع وأن الإعصـــار الجارف قادم لا ريــب .. لم تكن”راجيني ” تدرك أن النورس” الوديع ” سيغــادر حضنها بدون رجعـــة ، وأن “حبها ” القدســي سيشنــق على ربـوة العــدم بدون رحمـة ولا شفقــــة ….

رحلت شمش ذاك النهـار وأرخى الليل أجنحتـه على ”المدينة القديمة” و”المرسى” و “درب عمر” و “درب غلف” و “لقريعة” و” كراج علال” .. على “أنفــا” و “المعاريف” و “عين الذباب” ..على “كاريان زرابة” و “طومة ” و”الرحامنة “.. على “سيدي مومن” و “مولاي رشيد” و “سيدي عثمـــان” … على كل الأمكنة و الشوارع و الزقاقات .. فجـــأة وعلى غفلة من الزمن العابر.. دقت طبــول العدم واهتزت أركان المدينة البيضاء من شدة الانفجارات المدويــة ..

هرع “البوليس” إلى الأمكنة المحترقة وكــأن القدر أصر إلا أن تتلطخ لوحة احتفالات الذكرى (16 ماي) بطلاء الــدم، وهرولت سيارات الإسعــاف مخترقا صداها الشوارع الساكنة، وأعلنت حالة الاستنفـار في يــوم العيد والذكرى..قتلى وجرحى بالجملة .. أجساد متفحمة متناثرة كأوراق الخريــف .. أشلاء متطايرة .. نوافذ مكسرة .. برك من الدماء .. صرخات تنبعث وسط ركامات الإعصار الجارف .. وآهات تكســر صمت العيون الشـاردة .. كل شيء تغير في لمحــة بصــر .. ذبلت حقول العنبر .. وهاجم الخريف آخر أوراق السلام الساكن ..

تاهت الكلمات بين ركامات الحيرة و الذهول .. بين الفاعل و المفعول به .. بين المبتدأ و الخبر .. بين الجار و المجرور .. بين المضاف و المضاف إليه .. وشمر البوليس على سواعدهم المرهقة في يوم الذكرى (16 ماي) من أجل البحث و التحري وكشف النقاب عن الحلقة المفقودة في “مسلسل العدم” .. تحركت الأقلام الجافة في مجاري المداد الراكد .. تكاثرت الأخبار كما تتكاثر الجرذان في البالوعات المنسية .. وتناسلت المقالات العطشى مكسرة طوق الإيقاعات الرتيبة بحثا عن الحقيقة الضائعة خلف مرايا العيون الشاردة …

بعد مضي سنوات على الحادث المدمر، لم تقو”راجيني” على التخلـص من ماضيها المدمر.. لا زال ” الزوج” و”الإبن” يسكنان جوارحها كالجنيين العاشــقين .. فلا هما رحلا عنها ولا هي استطاعت أن تفك معهما حبائل الوفاء و الوصال .. لازالت ترعى في براري ذكراهما العابرة كما ترعى الغزلان المتيمة في مروج العشق الجارف، وتتنقل برشاقة وكبرياء بين موجات أثيرهما كما لو كانت نحلة ولهانة تبحث عن رحيق متناثر وسط الحقول العطشى .. ترجلت بخطوات متثاقلة نحو “البالكونة” بعد أن وضعت فنجان القهوة على المائدة .. نظرت إلى السماء بعيون شاردة تبدو كمدارة طرقية تتقاطع فيها كل شوارع اللوعة والحسرة والحرقة والشوق والفراق، وبعد هنيهة، رسمت الدموع مسيلات متموجة على وجهها الشاحب، تنهدت تنهيدة قاتلة، وتمتمت بكلمات متقاطعة قائلة : “الله ياخد فيهم الحق .. الله ياخد فيهم الحق..”، كلمات كانت تنساب كالشلال الثائر على مرايا قلبها الجريح، فتبث في كواليس نفسها، شحنة قوية، تجعلها تزداد إصرارا في الحياة وزرع شتلات الأمل والمحبة والتعايش والســـلام، من أجل زوجها وإبنها الذين اختطفتهما أيادي العدم من بين ذراعيها .. من أجل ضحايا 16 ماي .. من أجل كل من امتدت إليه مخالب التطرف الجبــــــــان .. لملمت جراحها واستجمعت قواها، وغادرت البيت على عجل، في اتجاه ساحة محمد الخامس الشهيرة، من أجل المشاركة في وقفة تضامنية أمام “النصب التذكاري”الذي يخلد للذكرى الأليمة، استحضارا لروح ضحايا فاجعة 16 ماي الأليمة ..وهو شوط من أشواط معركة بلاهوادة، ضد التطرف والكراهية والإقصاء، أصرت إلا أن تنخرط فيها، دفاعا عن رسالة المحبة والتعايش والحيـــــاة … مهما دقت طبول العبث والعدم …

يتبــــع …

[email protected]

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى