في الواجهةكتاب السفير

الخطاب الملكي : رؤية اقتصادية بمنظار سياسي تنتظر التنزيل

isjc

السفير 24 / ذ. طارق شهير

“إن المرحلة الجديدة تبدأ من الآن” واحدة من بين العبارات الواردة في الخطاب الملكي 11 أكتوبر 2019 التي تحاول إحداث قطيعة مع الانتظارية وتكريس الانطلاقة الفورية لمرحلة جديدة تعكس قرار التعديل الحكومي، الذي قضى قبل يومين بتقليص عدد الوزراء من 39 إلى 24 وزيرا بحثا عن الفعالية والتركيز في الأداء.

مرحلة إذن، ذات بعد تنموي/اقتصادي، حدد الخطاب الملكي –الذي جاء بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية العاشرة- أهم معالمها وآليات تفعيلها وشروط إنجاحها الذي لن يتأتى إلا بانخراط جميع المكونات من طبقة سياسية ، واقتصادية وهيآت المجتمع المدني، مركزا على إقحام القطاع البنكي والمالي في المشروع التنموي الجديد الذي يقتضي تضافر الجهود لتحقيق أهدافه، مما جعل نص الخطاب منذ البداية يحرص على التعبئة بخلق جسور ونسج علاقات جدلية بين مجموعة من الثنائيات، من أجل إسهامها في بلورة إنجاح المشروع الذي من شأنه أن يحقق حاجيات المواطنين وتطلعاتهم إذا ما كتب له التنزيل.

البرلمان والحكومة: الجدل التقليدي

اعتبر الملك كلا من البرلمان والحكومة مسؤولا عن تنزيل الاصلاحات، وتنفيذ القرارات، ومتابعة المشاريع، وفي هذا الاتجاه، رفع من شأن البرلمان باعتباره الجهاز التشريعي الذي منح له الدستور صلاحيات واسعة على مستوى التشريع ومراقبة عمل الحكومة وتقييم السياسات العمومية، مما يستوجب عليه تحمل مسؤوليته في تجويد القوانين بما يلائم متطلبات المواطن، ومراقبة الحكومة في قيامها بتدبير الشأن العام، هذه الأخيرة الملزمة بدورها بوضع المخططات وتنفيذ المشاريع وتتبعها عبر آليات المراقبة والتفتيش في إطار ربط المسؤولية بالمحاسبة، حيث نقرأ في هذا الصدد : ((لا مجال هنا للتهرب من المسؤولية في ظل التطبيق الصارم لربط المسؤولية بالمحاسب))

السياسي والاقتصادي: التوافق الممكن

للمرة الأولى يشدد الخطاب الملكي على ضرورة إقحام القطاع الخاص لاسيما البنكي والمالي في المشروع التنموي المرتقب نتيجة ضعف موارد الدولة في تمويل البرامج والمخططات، معتبرا إياه حجر الزاوية في بناء التنمية ؛ حيث يقول في هذا الاتجاه:

((مهما بلغ صواب القرارات المتخذة، وجودة المشاريع المبرمجة، فإن تمويلها يبقى رهينا بتوفير الموارد الكافية لتمويلها)) وهو ما يحيل على ضرورة التوافق بين رجل السياسة والاقتصاد في إطار علاقة تتسم بالمرونة والتعاون لبلوغ الأهداف؛ علاقة كثيرا ما اتسمت بالتوثر والنفور ظهرا بشكل واضح في موقف والي بنك المغرب عبد اللطيف الجواهري الذي انتقد -في ندوة صحفية في شهر مارس المنصرم -الفاعلين السياسيين كونهم يقودون كل شيء -على حد تعبيره- ليحملهم مسؤولية خمول الفاعلين الاقتصاديين.

من هذا المنطلق جاءت الدعوة الملكية لكل من الحكومة وبنك المغرب إلى وضع مخطط خاص من خلال التنسيق مع المجموعة المهنية لبنك المغرب؛ مخطط تحت الإشراف المباشر لشخص الملك يروم إلى تمكين الشباب المؤهل الحامل للمشاريع من القروض البنكية، ودعم المقاولات الصغرى والمتوسطة، والعمل على تسهيل ولوج المواطنين للخدمات البنكية، والاستفادة من فرص الاندماج المهني خاصة للعاملين بالقطاع غير المنظم. إن الإشادة الملكية بالمؤسسات البنكية والمالية وابراز أهميتها في المرحلة المقبلة، لم تغفل الشوائب التي تعتري هذا القطاع خاصة على مستوى العقليات البنكية التي تسعى إلى الربح السريع والمضمون، مما يخلق صعوبات على مستوى تحقيق الأهداف التنموية؛ حيث نقرأ في هذا السياق على لسان شخص الملك: ((أعرف جيدا أنه من الصعب تغيير بعض العقليات البنكية)).

في هذا السياق يؤكد الخبير الاقتصادي “نجيب اقصبي” الفساد الذي يشوب المجال البنكي؛ حيث أوضح في تصريح صحفي أن القطاع المالي يهيمن عليه لوبي يحتكر ثلثي السوق من طرف ثلاثة أبناك. هذه المشاكل التي يعرفها القطاع المالي لم تثن القرار الملكي عن تذكير المقاولة المالية بمسؤوليتها الاجتماعية والإنسانية- فضلا عن المسؤولية الاقتصادية- كالنهوض بالتنمية المستدامة والمحافظة على البيئة، والمساهمة في مختلف المبادرات الإيجابية.

القانون والأخلاق: علاقة التلازم

رغم صرامة الخطاب الملكي من خلال الحث على تطبيق القانون لربط المسؤولية بالمحاسبة والتحذير من أي تقصير في الأداء، إضافة إلى التذكير بتفعيل آليات التفتيش والرقابة، والحرص على متابعة المشاريع التنموية، والعزم على وضع حد لبعض التصرفات التي تعيق التنمية، فإنه أكد بالمقابل على الجانب الخلقي في تنفيذ المخططات، معتبرا إياه جزء لا يختلف عن التشريع القانوني، ويستمد أدبياته من العقل والضمير معا، مما حذا به إلى ضرورة تغيير العقليات البنكية والإدارية، ودعوته إلى ترك الصراعات الفارغة في إشارة إلى السلوكات المشينة التي أصبحت تحدث داخل مقرات الأحزاب من تراشق بالكراسي وملاسنات بالكلام النابي، بحثا عن المصالح الشخصية الضيقة وتغليبها على المصلحة الوطنية.

اللغة والخطاب: تفاعل بين المرسل والمتلقي

اعتمد الخطاب الملكي لغة مباشرة تستمد مفرداتها من القاموس الاقتصادي بالدرجة الأولى: (استثما.القطاع البنكي. المقاولات.التشغيل.الموارد المالية. الخدمات. التمويل …) أهمية الجانب الاقتصادي وكثافة مفرداته عكسه توظيف ضمير المتكلم المفرد بكل ما له علاقة بالقطاع البنكي والمالي: (أخص بالذكر القطاع البنكي/ أشدد على ضرورة الإعداد الجيد .خاصة التمويل/ أود أن أشيد بالنتائج “العمليات البنكية”/ أذكر بالمسؤولية الاجتماعية للمقاولة البنكية) إضافة إلى حضور المعجم الاجتماعي بغزارة (الشباب، التنمية، تطلعات المواطنين، المجتمع المدني، الحاجيات، الأمة، المسؤولية الاجتماعية…) إن تعدد قاموس مفردات الخطاب الملكي بين الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والديني الذي يهدف إلى التذكير المستمر بإمارة المؤمنين عبر الختم بآية قرآنية (ولا تبطلوا أعمالكم) تحذر من التقاعس والتخلف عن العمل؛ كل ذلك يوحي بتداخل كل المكونات في ولوج المرحلة الجديدة. من جهة أخرى فقد مزج الخطاب بين أسلوب يتسم بالحزم والصرامة (لامجال هنا للتهرب من المسؤولية في ظل التطبيق الصارم لربط المسؤولية بالمحاسبة… / سبق أن أكدت على ضرورة تغيير العقليات الإدارية…) ،وبين أسلوب يتصف بالمرونة والسلاسة: (فكونوا رعاكم الله في مستوى ما تقتضيه هذه المرحلة..)

تحديات التنزيل

يبدو أن الخطاب الملكي قد بلغ ذروته في استنفار جميع مكونات الطبقة السياسية والاقتصادية وهيئات المجتمع المدني والمواطنين جميعهم، للانخراط الفوري في مرحلة تنموية جديدة انطلقت يومه 11 أكتوبر بعد خطاب العرش الأخير، الذي مهد الطريق أمامها. وهي مرحلة ولا شك، تستدعي التنزيل الفعلي لمشاريعها بغية جني ثمارها المنتظرة وفق تطلعات المغاربة وطموحاتهم؛ تنزيل يظل رهينا بتغيير العقليات التي اعتبرها الخطاب الملكي ضرورة ملحة لتحقيق التنمية المنشودة؛ عقليات حية تستطيع أن تقنع المواطنين بأن دور الحزب هو خدمة المصلحة الوطنية بتأطيرهم وتمثيلهم وليس مقاولة سياسية تبحث تقوية نفوذها وتحقيق مصالحها، مثلما تستطيع التمييز بين تقديم القروض للمقاولين الشباب باعتبارهم رأس مال بشري يستحق الاستثمار وبين تقديم قروض بمثابة استعطاف وعبء على المقاولة المالية، وبمقدورها أيضا إقناع الشباب بالبقاء في وطنهم بدل الزج بأرواحهم في غياهب البحور… إلى أن تتغير هذه العقليات الكفيلة بتنزيل المشروع النهضوي الجديد سيظل المواطن ينتظر مع المنتظرين ،حتى وإن شرع يمني نفسه بالانخراط -في هذه المرحلة- مع المنخرطين.

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى