أقلام حرةفي الواجهة

الدفاتر القديمة

isjc

* بقلم الكاتب المصري: د. محمد سعيد

مرض مرضاً شديداً استشعر معه دنو أجله؛ فهيأ نفسه للرحيل ، وألفى جسده وقد ضعف تماماً.. بينما نفسه قد صُهرت من جديد؛ فقد أتاح له المرض أن يستعرض حياته الماضية، فرأى نفسه وقد انشغل بأديمها دون عمقها، وقشورها دون لبابها، يشده صغيرها، ويطمح إلى وهمها. فأخذ نفسه في مرضه يتعرف الغرض من هذه الحياة، ويتشوق لفهم معناها، فاجتهد أن يجتلي حقيقتها المغطاة بالأشكال والأسماء، ويبحث عن نقطة الاتصال بين الله والإنسان، كأن نفسه كانت نبعاً مدفوناً فتفجرت، وكأن اليقين كان في السماء فاستحال في قلبه.

لشدّ ما يكون الإنسان أقرب إلى ربه في مرضه وفي أحزانه وشدائده، لأنه يهفو النجاة فلا يجدها في الأصدقاء والأقرباء، وإنما يطلبها من رب الأرض والسماء، الذي لا تحد قوته، ولا تقصر قدرته، وفي مثل هذه المواقف تتكشف النفس الإنسانية فيُرى ضعفها بذاتها، وقوتها بربها. أتاح المرض لصاحبنا فرصة أن يُقلب في دفاتره القديمة، فوجد عقله قد نما ولكن قلبه قد فَتر، ولم يحزن على شيب دب في رأسه كما حزن على دبيب المشيب إلى قلبه، فالقلب صلة الأرض بالسماء، ومهبط الوحي من السماء إلى الأرض، والقلب هو الحب والانسجام والجمال، والقلب هو الدين، وهو الإنسانية، وهو الحياة.

وأبصر صاحبنا العالم فرآه لم يسعد بنمو العقل بقدر ما يشقى بضعف القلب، فهو سبيل الهداية في الحياة ومنبع السرور والألم، وموطن اليقين والشك والزلل كما حُبب إلى صاحبنا التأمل في جمال الطبيعة من حوله؛ فإذا بقلبه ينبض من جديد، ليبصر أنغاماً وجمال انسجام، وإبداعاً في التكوين ووحدة في الوجود وتدرجاً في الارتقاء. ثم سأل نفسه ماذا صنع في وجوده، لقد كان منغمساً في الحياة وقد نفضت يدها منه؛ حيث وقف فيها موقف المتفرج يشاهد إبداع الآخرين، وإخلاص المخلصين. فَلامَنفسه لأنها رضيت أن تكون على هامش الحياة لا في صميمها. ثم فطن إلى الطبيعة البشرية، ووجد أنها خلقت فينا الأمل والطموح، خلقتهما للسعي الدائب والرقي الدائم، ووجد أن للأمل في الإنسان وظيفتين؛ احتمال متاعب الدنيا وأسقامها، والسعي الأزلي للارتقاء بها، وهذا مبعث التقدم في كل مناحي الحياة.

وهكذا كان العراك بينه وبين نفسه، وتمنى أن يصح جسده وتبقى نفسه صافية صفاءها في مرضه، لا يرى توافه الدنيا ولا يأبه بها، ولكن سرعان ما بدأ دمه يجري في جسده من جديد، ليعاود سيرته الأولى تماماً، وكأن مرضه لم يكن، وتوارى تأمله بحجاب الواقع فكان كنقش على ماء وحروف رسمت في الهواء.

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. المقال يثير تساؤلات كثيرة حول الإنسان ورجوعه لطبيعته رغم الأزمات الصعبة التي يمر بها. شكرا لكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى