كتاب السفير

“اِجري يا محمد أفندي”

isjc

* طارق شهير

في نهاية رائعة السينما المصرية “الأرض” للمخرج المتألق يوسف شاهين، المقتبس عن رواية الأديب العربي عبد الرحمان الشرقاوي، تستوقفك عبارة “اجري يا محمد أفندي” ومحمد أفندي هذا، كان بمثابة الشاب المثقف الذي كلف بتقديم عريضة احتجاجية من طرف الفلاحين إلى الحكومة نتيجة قرارها التعسفي القاضي، بتقسيم ري أراضيهم الزراعية مناصفة مع أرض “محمود بك” الإقطاعي، الذي لم يكتف باستغلال أهالي قرية “رملة الأنجب” لمصلحته الخاصة، بل سيعمد إلى انتزاع جزء من أراضيهم لإنشاء طريق يصل بين سراياه والشارع الرئيس.

وهو سبب آخر كان كافيا لقيام الفلاحين بثورة ضد “محمود بك”؛ حيث سيتمسكون بهويتهم/الأرض، رافضين الانصياع لقرار الحكومة التي سترسل قوات الهجانة لتسيطر على القرية بإعلان حظر التجوال، وتنتزع الأرض بالقوة.

في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة، يختفي “الشيخ حسونة” رجل الدين والتقوى والموعظة الحسنة، والحامل لكتاب الله، متخليا عن موقفه النضالي الذي كان سند الأهالي لحساب مصلحته الشخصية، فيما نشاهد “محمد أفندي” الناطق باسم قرية “رملة الأنجب” والممثل لها أمام الحكومة، بمجرد سماعه صرخة أحد الفلاحين “دياب”: (اجري يا محمد أفندي)، حتى طفق  يهرول في ركوض جنوني بكل ما أوتي من طاقة، تاركا فراغا في موقعه على الأرض، حفاظا على سلامته من خيول الهجانة وأسواطهم، وموازاة مع ذلك، ظل “أبو سويلم” الفلاح والأمي البسيط، صامدا في مكانه وسط الأرض، متصديا للقوة المتسلطة رفقة ثلة من الفلاحين في موقف بطولي؛ إذ سيتم تكبيله بالحبال، ليُجرّ بواسطة حصان، ويُسحل على الأرض، وهو يحاول التشبث بجذورها الزراعية.

موقف تاريخي أبدع وأبهر فيه الفنان المصري المقتدر”محمود المليجي” في تقمصه شخصية “أبو سويلم”، وبقدر ما يثير انتباه المشاهد إلى نموذج من الطبقات المسحوقة للمجتمع العربي والمصري قبل حوالي خمسة عقود، بقدر ما يعكس تخاذل الداعية الإسلامي الذي تجده أول المنسحبين في وقت الشدائد، ويجسد جبن المثقف العربي الذي يعد أول الفارين من المواقع النضالية التي يفترض أن يتواجد بها، مما يكرس خيانته لقضايا مجتمعه وأمته بتخليه عن الشعارات والخطابات، التي عادة ما يصدح بها في المنابر الإعلامية والسياسية والفكرية، تاركا الطبقات البسيطة من فلاحين وعمال في مواجهة مباشرة مع الآلة القمعية للسلطة الحكومية.

إلا أن مايشفع لـ “محمد أفندي” في الشريط السينمائي الذي أنتج عام1970، أن الرجل عمل بالنصيحة وفرّ راكضا، كي ينجو بنفسه من بطش الهجانة، بخلاف (المثقفين العرب) اليوم، الذين تخلوا عن دورهم في تمثيل مجتمعهم والدفاع عن قضاياه راكضين وراء مصلحتهم بالدرجة الأولى، في تهافت منقطع النظير،لا خوفا من بطش السلطة هذه المرة، بل وراء تحقيق جوانب ضيقة من أهدافهم الشخصية، قد لاتتعدى الاستفادة من بعض الرحلات والأسفار الخارجية، أوتقلد بعض المناصب السامية، أو الظفر بحسابات مصرفية، قبل أن يقذف بهم بعيدا إلى وجهة غير معلومة، بعد انتهاء صلاحياتهم وانقضاء مهمتهم.

ليطفو السؤال من جديد، لكن في حلة أخرى: متى سيتوقف محمد أفندي عن الركوض، ويعود -على الأقل- إلى موقعه الحيادي حفاظا على ما تبقى له من ماء الوجه؟ وأين اختفى الشيخ حسونة حتى هذه اللحظة؟      

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى